مقالات الرأي

أزمة التحول السياسي في حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد

بقلم: د.عبد المنعم همت

تمثل حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد أحمد النور واحدة من الظواهر السياسية النادرة التي حافظت على ثبات مبدئي في سياق مليء بالتقلبات والمساومات والانقسامات. فمنذ اندلاع الكفاح المسلح في دارفور، شكلت الحركة ضمير حي للمقاومة ضد التهميش، واحتفظت بمكانة رمزية في الوجدان الشعبي، خاصة في أوساط المهمشين الذين رأوا فيها التعبير الأكثر صدق عن وجعهم الجماعي. غير أن هذه المكانة، رغم قوتها الأخلاقية، لم تُترجم إلى مشروع وطني جامع قادر على كسر قيد الجغرافيا والانطلاق نحو أفق سياسي أرحب.

فالحركة، رغم عدالة قضيتها ونقاء سرديتها الأولية، وقعت في أسر النشأة الإقليمية، إذ لم تستطع أن تتجاوز واقع كونها حركة دارفورية المنشأ والامتداد. صحيح أن هذا التوصيف لا يُلغي مشروعيتها، إلا أنه يُضيّق من قدرتها على الفعل الوطني، ويقيدها ضمن حدود الهوية الجهوية التي ارتبطت بها. واللافت أن قيادة الحركة، رغم إدراكها لهذه الحقيقة، لم تقدم حتى الآن تصور استراتيجي واضح لتحرير الذات من هذا القيد. لم تُطرح سياسات أو مبادرات تهدف إلى دمج أبناء مناطق أخرى في الهياكل التنظيمية للحركة، ولم تُبذل جهود كافية لنقل مركز الثقل من دارفور إلى مشهد وطني متعدد ومتشابك.

إحدى المعضلات التي تُواجه الحركة هي ضعف خطابها الإعلامي والسياسي تجاه القضايا الوطنية الكبرى. فرغم أن لديها مواقف واضحة من كثير من المسائل الجوهرية مثل الحكم المدني، ومناهضة الشمولية، ورفض العسكرة، إلا أن هذه المواقف لم تُترجم إلى حملات تواصل فعّالة مع الجماهير. إن الخطاب ظل نخبوي في بعض جوانبه، ومحصور في وسائل تقليدية لا تخاطب المزاج الجديد للمجتمع، لا سيما الشباب الذي يبحث عن لغة قريبة من همومه، وأدوات تعبير تتجاوز الإنشاء السياسي إلى الرؤية والبناء.

وفي لحظة تتسم فيها الساحة السودانية بتكاثر المبادرات والمشاريع السياسية، تغيب حركة عبد الواحد عن الفضاء العمومي. لا تُطرح مبادرات، ولا تُنظم مؤتمرات، ولا تُعقد ندوات تشرح فيها الحركة برنامجها للناس، ولا توجد حتى محاولة لخلق شبكة تحالفات سياسية ومدنية يمكن من خلالها التأثير في موازين القوى. هذه العزلة – وإن كانت تعبير عن نقاء رفضها للتسويات المعيبة – إلا أنها تُشكل خطر حقيقي على فاعليتها المستقبلية، وتفتح الباب أمام التآكل التدريجي للرصيد النضالي الذي راكمته الحركة في سنوات القتال والرفض.

ما يعمّق الأزمة أكثر، هو تغليب السلوك العسكري على الرؤية السياسية. فالحركات المسلحة التي تُدمن المكوث في منطق البندقية، تفشل غالبا في التكيف مع متطلبات السياسة المدنية. وهذا ما نراه في أن البنية التنظيمية للحركة لم تشهد تحول جذري من التنظيم المقاتل إلى الحزب السياسي أو الحركة المدنية التي تُراهن على المجتمع أكثر من السلاح. غياب هذه الرؤية التحولية يجعل الحركة تدور في فلك العزلة، ويُصعب عليها بناء الجسور مع قوى التغيير الأخرى.

إن الحركة، إذا أرادت فعلا أن تبقى مؤثرة وذات صلة، تحتاج إلى الخروج من صمتها الاستراتيجي، والانخراط في الفعل المدني. عليها أن تُعيد تعريف ذاتها، لا فقط بوصفها صوت للمهمشين في دارفور، بل كقوة سياسية تتبنى مشروع سوداني شامل يعالج جذور الأزمة الوطنية من مركزية الدولة، إلى أزمة الهوية، إلى سؤال العدالة الاجتماعية، إلى بناء الدولة المدنية.

إن مستقبل حركة تحرير السودان لا يجب أن يُقاس فقط بالوفاء للذاكرة النضالية، بل بقدرتها على إعادة إنتاج نفسها كفاعل سياسي مؤسسي، يمتلك رؤية، ويمتد إلى كل شبر من أرض السودان. ولهذا، فهي بحاجة إلى تأسيس خطاب جامع، وتفعيل أدوات سياسية جديدة، والانفتاح على قوى المجتمع المدني، وتقديم برنامج تفصيلي لحكم السودان يُخاطب الاقتصاد، والتعليم، والصحة، وبناء المؤسسات، وليس فقط معادلة التهميش والهيمنة.

تبقى الحقيقة الثابتة أن التاريخ لا يُكافئ فقط من يُجيد الرفض، بل من يُحسن البناء أيضا. وحركة تحرير السودان ، بما تمتلكه من رصيد أخلاقي ومبدئية نادرة، قادرة على أن تُعيد تعريف موقعها في المستقبل السياسي للسودان، إن هي أدركت أن النقاء الثوري يجب أن يُستكمل بالفعل السياسي لا أن يُكتفى به شعار.

مقالات ذات صلة

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x