مقالات الرأي

“تش ” عين الشمس بالسرقة

بقلم : محمد بدوي

عقب بدء الحرب في السودان انتشرت عبر وسائل الإعلام صورة لرجل سوداني في حوالي العقد الخامس ونيف من العمر، لحيته دائرية، إرثدي جلباب وسروال وعمامة بيضاء، جالس على دكة و مديرا ظهره لما خلفه من مشهد، بدأ غارق في صب الماء من ابريق أمسكه بيساره متوضئا، أسفل الصورة تعليق ” أيقونة الحرب” الخمسيني الوقور لم يأبه بالالتفات الي القوم الذين تقاسم ملامحهم من يصادفك في الشارع العام من سحنات واعمار وازياء مختلفة انكبوا وفقا للخبر المنشورعلى سرقة أحد أفرع البنوك باحدي ضواحي العاصمة الخرطوم، ظهر بعضهم مهرولا الي حيث خرج أولئك المحملين بما حملت ايديهم من أوراق نقد من جراء” السطو العام ” المكسور الضمير والكرامة.

(2)
المكان ضاحية بأحدي المدن القديمة تاريخا حيث حملت اسم التصق بأحد قادة مؤتمر الخريجين ، اجبر ساكنيه كغيرهم على مغادرته على عجل صوب أمان داخلي وخارج الحدود وذلك بعد أن إمتد إليه نشاط طرفي الحرب برا وقصفا، من تخلف من السكان كانوا على رهان الصمود، مجموعة الضاحية على الواتساب في نشاط دؤؤب تغرق بالرسائل النصية تحديثا وسؤالا عن الأحوال في نهار التاسع والعشرين من مايو 2023 قرر بابكر أحد الذين ظلوا بالحي مغادرة مجموعة الواتساب ، سالت منه دمعة عزيزة فهو ممن خبرتهم معتقلات جهاز الامن صامدا عقب انقلاب الحركة الاسلامية في ١٩٨٩ ومرة اخري في ٢٠١٩ لمشاركته في قيادة التظاهرات التي أنجزت ثورة ديسمبر ٢٠١٨ رد ” على الجهه المقابلة من حيث أفطن واسرتي مبني عال الطوابق لامس العشرة، غادره ساكنوه من ميسوري الحال في وقت مبكر عقب إندلاع الحرب، لكن صار المبني وغيره من المنازل مسرحا للنهب والسلب، فيا للأسف من فعلوا ذلك من ذات الحي بل بعضهم لم يصنف في محيط الجيران، السرقة كانت لكل شي، كل ما يمكن حمله وتفكيكه دون استثناء لليس ذو قيمة أو قد يجد من يتملكه بمقابل أو يمكن استخدامه، حتى كاميرات المراقبة لم تفلت، سرقات ماهلة في ايامها كأنها على اتفاق مع طرفي الحرب في اطاله أمده، للأسف كشفت الحرب بؤسنا وعورتنا المستورة، هؤلاء ليسوا من يروجون لهم من النيقرز أو أي من طرفي النزاع هؤلاء نحن “
(3)
على مبعدة من سجن الهدي غربي مدينة أمدرمان، مخزن للمواد الغذائية المختلفة، كان قد انتشر على الوسائط بوجود المكان بمساحة أشير اليها بحوالي كيلومترا مربعا، منذ ذاك الحين و جموع من الذكور والاناث من مختلف الاعمار بما شمل الأطفال، يدلفون الي المكان و يخرجون بعضهم يحمل ما يقوي علي حمله واخرون يستخدمون العربات اليدوية، التكتك ، السيارات حتى ناقلات المياه استوت المنهوبات على سقفها ” جريمة النهب تنطبق عليها لوجود الموقع في فصاء يتعذر معه الغوث” أعلاها لم يعجز القوم حيلة، قادمون بشهية مفتوحة بعضهم يعود ربما للمرة الثانية أو أكثر، قال محدثي ساخرا” كانت ملامحهم راضية بنهبها ” فهي لم تفعل ذلك لتسد الرمق أو تروي الظما، فقيمة ما تم تملكه نهبا يخرج بعضهم او غالبهم من تصنيف الفقراء فقد فاق ما حازوا عليه ما يوازي ” طعام العام “
(4)
هذه بعض نماذج لماذا نسرق وننهب ؟

جريمة النهب المسلح سواء بسلاح ناري في تاريخها القريب ارتبط بالحالة الاقتصادية والفجوات وظلت تستهدف شاحنات المواد الغذائية، وركاب المركبات العامة والخاصة المتنقلين بين المدن او الضواحي، اتسع نطاقها عقب المجاعات التي تأثر بها بعض اجزاء البلاد، تجاهلت الدولة معالجتها اقتصاديا وعززت من رصد الميزانيات لمكافحتها شرطيا وعبر المحاكم الخاصة بإجراءات استثنائية وعقوبات مغلظة، فكشفت الحرب حالنا بان وصل الحال الي العجز في توفير الطعام للمساجين سواء المحكومين او المنتظرين، فتهيأت ظروف لهروب جماعي لبعضهم، وسارع ولاة الأقاليم لإطلاق سراح مجموعات واسعة، رغم ذلك ظلت وسائل الاعلام تنبه الي الاثر المحتمل للفرار على الحالة الامنية، دون الأسئلة الجوهرية حول العلاقة بين المؤسسات العقابية والاصلاح، الأعداد المرتبطة بالجرائم الاقتصادية التي فاقت سعة السجون والعدالة الاجتماعية كسؤال متحرك تاريخيا واستشراء وتعدد انماط الفساد ولا سيما في فترة سيطرة الحركة الاسلامية على السلطة، والراهن الذي قد يساهم فيه قيمة اطنان محدودة من الذهب، او قيمة “٥٠” سيارة رباعية من موديل ٢٠٢٣، أو طائرتي ميج ٢٩ في معالجة كل أسباب هذا الوضع من جذوره ، ليحيل المؤسسات العقابية الي مقار اصلاحيه لمخالفي الجرائم الاخري خارج المصنفة بالاقتصادية.
(5)
السرقة ظلت في الحالة السودانية ترتبط في الغالب بالحوجة واعني بها مصدر دخل مقابل للوظيفة او المهنة، وهي الزاوية التي لم يتم دراستها في اقتصاد العدالة، هذا لا يسمل بالطبع جرائم السطو على المؤسسات المالية او تلك السرقات التي تقودها مجموعات منظمة تستهدف المال المنقول ذي القيمة التي تدخل تحت دائرة استهداف ” الجريمة المنظمة ” .
السجل المتراكم للجرائم الاقتصادية المرتبطة بالسلطة واستغلال النفوذ الوظيفي ولجت ميس الاباحة السياسية نتيجة لسياسة التمكين السياسي وترسانات الحصانات اللتان شكلتا حواجز فعلية امام المحاسبة وذهنية لدي الشارع في جدوي العدالة فقاد الي فقدان الثقة وعزلها من ذاكرة الوسائل التي يمكن التفكير فيها سواء للأنصاف ايضا او امكانيها في النهوض مستقبلا .
(6)
في ٢٠١١ اتسع نطاق التعدين الاهلي عن الذهب مع بداية التراجع الاقتصادي الذي واجهته السلطة آنذاك بالسياسات التقشفية في واقع تحت وطأة التخصيص والسيطرة الاقتصادية السياسية ومحاربة الرأسمالية الوطنية، مع تراجع مريع للخدمات العامة النسبية من تعليم وصحة وغيرها وارتقاء المؤسسات الخاصة التي في الغالب ملكها اعضاء او مؤسسات حزبية تتبع للنظام السياسي او الطبقة الاجتماعية التي ارتبطت بها، شكل التعدين وظيفة وملاذ فهو لا يحتاج الي ترخيص، أو يخضع للضرائب بشكل علمي ورسمي، بل لم يكن أمام الدولة المطالبة بذلك لأنها تنازلت مسبقا عن الشروط الصحية والبيئية وغيرها، فصارت العلاقة مربوطة بالجهد والحظ ، نتج عن أن كل ما ينتج من التعدين لا علاقة للدولة به بل غابت فكرة الدولة تماما عن المعادلة ، فالمعادلة الذهنية هي غياب دور الدولة وتبديد الموارد بالصرف على الحروب والسياسات الحزبية ليتحول تكوين الثروات الناتجة مرتبطا بالفرد دون ان يتعداه الي المجتمع او الدولة وخروجها من تصنيف علاقات الانتاج طالما انها في بدائيتها ترتبط بالحظ والفرصة الواحدة والصرف على الامان الشخصي، وتحمل مخاطرها الصحية وغيرها التي تؤدي بالحياة، فالأرض سودانية والتعدين سوداني/ة ، قاد هذا الي تحولات طبقية تراجعت فيها القيم الاجتماعية فالخروج من دائرة الفقر ارتبط بجهد اليد .
(7)
٢٥ ديسمبر ٢٠١٩ الذي سبقه احدي تظاهرات ثورة ديسمبر كان موعدا لمناقشة مسود مقترح الحد الأدنى من الاجور الذي صاغه تجمع المهنيين السودانيين قبل تحوله لقيادة الحراك آنذاك، هذا الواقع ظل يشير الي المعاناة التي ارتبطت بالأجور آنذاك، اضف الي ذلك التراكم الذي نتج من سوء ادارة اقتصاد الدولة والذي دفع الي اتساع نطاق العمل اليدوي الذي بالمقابل كانت تواجهه السلطة بالرسوم الادارية والحملات والمحاكمات التي تنتهي بالغرامات المالية التي تزيد من دائر. الافقار لمجتمعات في الاصل تحاول ممارسة ما يبقيها على قيد الحياة، هذه المجتمعات دفعت بها الظروف الامنية والاقتصادية منذ عقود الي النزوح وتكوين احزمة حول المدن الكبيرة والحصر، هذا النزوح الذي اتخذ اشكال اخري عقب اتساع نطاق الصراعات المسلحة التي لم تخرج من الاسباب السياسية او التهجير القسري طمعا في الاراضي الغنية لقاطنيها، الي عشرات المعسكرات والتي اتخذ بعضها اشكال قري التوطين ظل قوامه تاريخيا يتلقى المساعدات الانسانية الضرورية من المجتمعين الاقليمي والدولي في حالة الدولة طرفا فيها وتم تمويل اسباب النزوح من الميزانية العامة، مع عقبات في كثير من الحالات لوصول المساعدات المجانية لهم، او مصادرتها لتدخل دائرة الفساد، الخلاصة هنا ان السلطة تحول مقابل الخدمات الي تمويل الانتهاكات ومن ثم الاجبار على النزوح الي واقع اخر للخضوع الي دائرة القهر العام والعقوبات المدفوعة القيمة، اذن الدائرة هنا جعلت من الكسب، السلامة العامة الحرمة من الانتهاكات تخضع لدائرة مالية لا علاقة لها بمشروعية مصدر الكسب لكن يظل البقاء مرتبطا بقيمة الغرامة او مقابل الخدمات اليومية .
(8)
خلال سيطرة الإسلاميين على السلطة حدثت تحولات في بنية الصراعات لارتباطها بالتقسيم الاداري المرتبط بحدود الارض من جانب وتعديل في قانون الحكم المحلي بإدخال الامارة في ١٩٩٤ وما تبعه من وصف الامير في سياق الادارة الاهلية هذا قاد الي تدخل الدولة في الحلول العرفية للنزاعات التي ارتبطت بالموارد والملكية العرفية من جانب وبشح الخدمات الاساسية فقاد هذا التدخل الي اجبار على نسق حلول جديدة مرتبطة بالديات كنتاج لمقاصة بين خسائر الطرفين بما يشمل الانفس او القتلى او الضحايا، هذا قاد الي تسليع لقيمة الانسان ذهنيا، الفساد الذي اتسع نطاقه وتعددت اشكاله وصل بها الحال في حالة بعض المليشيات بان وصلت قوائم الرواتب او المدفوعات تشمل اسماء غير حقيقية قد تأتي من سياق اسماء اقارب من الدرجة الاولي بما يشمل الاطفال، وهي ممارسة امتدت لأغلب المؤسسات الشبه عسكرية التي كونتها الدولة، هذه الممارسات تكشف الفساد الذي يتم احيانا نيابة عن اشخاص واطفال بشكل مسبق .
(9)
حينما تدخل الدولة لأحداث عملية الافقار العام من بعض المجتمعات باستهدافها بالضرائب الغير قانونية، ضرب نمو المراكز الاقتصادية ، تجفيف الموارد كما حدث في حالة سوق المواسير ٢٠١٠ وهي عملية ممنهج هدفت الي افقار بعض المجتمعات المنحدرة من اصول مشتركة مع بعض الحركات المسلحة للحد من مصادرها الاقتصادية، في حالة تانية حينما يحتج بتعثر تنفيذ اتفاق سلام السودان ٢٠٢٠، ” سلام جوبا” لغياب التمويل يثير الامر الاستغراب لان التمويل كان موجودا وأكثر بالنظر الي اصول بعثة اليونامد التي كانت تفوق ذاك المبلغ لكن قصر النظر الاقتصادي رغم الخطل في توقيت ملف السلام اقصاها خارج التفكير ثم قادت النزاعات بين طرفي الحرب الي تدميرها ونهب ممتلكاتها لتساهم فيه مجموعات مختلفة لم تستثن حتى بعض من تستهدفهم البعثة كمستفيدين ومن اطراف عملية السلام وغيرهم لماءا؟ لان هنالك من خطط للتخريب وهنالك من رسخ للكراهية تجاه البعثة ودورها فدفع بأصولها الي دائرة الاستهداف الذهني، وهنالك من يري تلك المساحات التي استغلتها البعثة هدفا للسيطرة عليها بالتخصيص، فدفع ذلك الي تحول الحصول على المكسب طالما ان هنالك من يود الحصول على كامل الممتلكات دون سند سوي السلطة او القوة، هذا المنعطف الحاد ليس سوي نتاج تعميد وضع اليد كأحد مصادر التكسب في ظل انفصال الحد الفاصل بين المال العام والخاص والمنفعة العامة / الخاصة، والفساد والمشروعية، والدليل ان ضحايا سوق المواسير لا زالوا قيد انتظار عدالة الحصانات ولا جديد في ملفات التحقيقات المرتبطة بأحداث مقار بعثة اليونامد.
(10)
انماط السلوك الراهنة للمدنيين في ظواهر السلب والنهب اكتسبت مشروعيتها بذات نسق اكتساب مشروعية السلطة عبر الانقلابات العسكرية وما نتج عنها من تراجع وتخلف وظواهر، ومن انعدام الامن الداخلي المرتبط بالمواطنة، والامان المرتبط بالحق في الحياه والحرمة من الانتهاكات، فتحول الانسان بالدولة من محور الاهتمام وتحويله الي قيمة حسابية في قوائم الاعتداءات، خلقت حالة اكتئاب جماعية في احدي مراحها لا يأوي الفرد في المحيط سواه والمحيط القريب ربما من الدرجة الاولي، رغم اختلاف الرؤي مع وزير المالية السابق الدكتور ابراهيم البدوي الا ان خطوة رفع الاجور ابان توليه في الفترة الانتقالية كانت موفقة لان انعكاسها جاء ايجابيا ليس في ناتجه الاقتصادي لكن لأحداث اختراق يعيد الترتيب ويدفع الي اعادة تجسير العلاقة بين العمل والاجر المتكافئ الذي يلفت الانتباه الي راس المال الاجتماعي ووجوده في معادلة العلاقة بالدولة .
(11)
الخلاصة: الظواهر المرتبطة بالنهب والسرقة ليست سوي رأس جبل الجليد لأن الحالة الواسعة المرتبطة بالصراعات اقطابها داخلية وظلت الدولة او المليشيات طرفا في مواجهة الاطراف الاخري سواء مجموعات مسلحة او غيرها، وظل المدنيين على الدوام في مصاف الضحايا، مع غياب الانصاف وتعدد مراكز العنف الطويل والمتسع، غياب الانصاف في انماط الجرائم المروعة التي استهدفت النفس والكرامة مثل القتل والجرائم الجنسية والتعذيب بأشكاله والاختفاء القسري وحرق المساكن والقري والقصف الجوي ، وتطور اختلاق حالات تراجع الامن ولا سيما خلال الفترة الانتقالية الي وصلت الي الحرب الراهنة ستعمل على ظهور اشكال جديدة او تجدد انماط محدودة النطاق الي البروز مرة اخري بطريقة علنية وواسعة جدا، لأسباب بان الحرب الراهنة تربط بدوائر اقليمية لها مساره قرارات مؤثرة، اضف الي تراكم الارث المرتبط بفترة الحركة الاسلامية المشار اليه والسياسات والتصريحات التي عمد بعضها صراحة الي اعطاء ضوء اخضر لممارسة الانتهاكات والتمييز الذي استهدف الحق في الحياة والكرامة باعتراف اعلي قياداتها علنا على وسائل الاعلام كل هذا نسف فكرتي الحماية ومفهوم الدولة في الاذهان بما يفسر بعض دوافع هذه الممارسات التي تعبر عن انحسار العلاقة بين الفرد والمجتمع من جانب وبين بينهما والدولة بمفهومها المرتبط بالشكل القانوني ( الارض, السلطة والشعب) فالأرض مستعلة ومحل استهداف والسلطة قمعية و الشعب بعيدا عن التعريف المسمول بالكرامة والحق في الحياة، لنعود الي الكسب والتملك بقوة اليد .

مقالات ذات صلة

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x