إنهاء دولة ٥٦ أم إنهاء دولة ٨٩؟، قراءة وتعليق في كتاب سيرة انفجار السودان – عبء البنية والجغرافيا الصحفي والإعلامي السوري / محمد سيد رصاص (٣)

بقلم : الصادق على حسن
على أي باحث في أي شأن من الشؤون أو أمر من الأمور أو مسألة من المسائل حتى يصل إلى الحقيقة المجردة عليه بالتدقيق، وما لم يفعل ذلك فإن حصيلته مما يصل إليه من نتائج قد تكون فطيرة أو بها ثقوب عديدة أو أخطاء فادحة تضعف من قيمة بحثه او قد يكون بحثه بلا قيمة .
العثمانية وليست التركية :
من الأخطاء الشائعة المنقولة بالتواتر والمدونة في بعض كتب التاريخ والمناهج الدراسية بأن الدولة التركية هي التي استعمرت السودان والصحيح الإمبراطورية العثمانية على يدي واليها على مصر محمد علي باشا وأبناءه.
إن دولة تركيا تأسست على يد الضابط في الجيش العثماني مصطفى كمال الذي يُلقب بكمال أتاتورك (أب الأتراك) وأسس مصطفي كمال التي أخذت تركيا إسمها منه دولة تركيا الحديثة عقب مباشرة دول الحلفاء تقسيم ممتلكات الإمبراطورية العثمانية بعد دخول السلطان العثماني في الحرب العالمية الأولى ضمن تحالف دول المحور (الدولة العثمانية -ألمانيا- النمسا- المجر) في مواجهة تحالف دول الحلفاء (بريطانيا -فرنسا -روسيا-صربيا)، وبموجب إتفاقية سايكس بيكو ١٩١٩م تم وضع أسس تقسيم ممتلكات الإمبراطورية العثمانية وانشاء دول العالم العربي في الشرق الأوسط والتي سيطرت عليها دولتي بريطانيا وفرنسا، في تركيا قام الضابط في الجيش العثماني مصطفى كمال ( في الفترة ما بين معاهدة مودروس في ٣٠ أكتوبر ١٩١٨ و إلغاء السلطنة العثمانية في ١/نوفمبر/ ١٩٢٢م بإيقاف التغول البريطاني الفرنسي وإحتلال استانبول ، وبمعاهدة مودروس استسلم العثمانيون في مواقعهم المتبقية خارج الأناضول ووأفقوا على ان يسيطر الحلفاء على مضائق البسفور والدردنيل والحق في إحتلال أي إقليم عثماني في حالة وجود تهديد للأمن وتسريح الجيش العثماني . في أكتوبر ١٩٢٣ تم إعلان مصطفى كمال رئيسا لتركيا وصادق البرلمان التركي على الدستور التركي العلماني في عام ١٩٢٤ م لتحل الدولة التركية محل دولة الخلافة العثمانية الإسلامية .
الشخصية السودانية الأولى تشكلت في ظل الخلافة العثمانية والحاكم العثماني على مصر محمد علي باشا وأبناءه من بعده وكانت دوافع محمد علي باشا من توسعه جنوبا الحصول على الذهب والأموال والتجارة والرجال(الرق) لإستخدامهم جنودا في حملاته التوسيعية، وظهرت طموحاته الشخصية في تأسيس أمبراطورية خاصة به وبأبنائه من بعده مبكرا . ولكن حتى داخل أسرته ظهرت الطموحات المستقلة حينما حاول صهره حكمدار السودان أحمد باشا جركس الإنفراد بالسودان وإقامة مملكة خاصة به في السودان وقيل أنه مات مسموما في عام ١٨٤٣ وكان يستعد لإستقبال زيارة صهره محمد علي باشا للخرطوم .
وضعية سكان الأراضي الواقعة جنوب مصر في ظل التبعية للإمبراطورية العثمانية وما بعد تقسيم ممتلكات الإمبراطورية العثمانية.
الضابط الأرناؤوطي في الجيش العثماني محمد علي باشا والذي كلف بصد الفرنسيين من مصر في عام ١٨٠١ ونجح في مهمته أظهر طموحه في السلطة ، وأعلن نفسه خديويا على مصر ولكن السلطان العثماني منحه لقب والي وظل يمارس الخديوية بصورة فعلية، وأصبحت مصر خديوية في عام ١٨٠٥م .ةفي عام ١٨٤٠م بموجب اتفاق لندن ضمن محمد علي باشا توريث الحكم من بعده لأبنائه وكان قد قام بإحتلال أراضي السودان الواقعة جنوب مصر في عام (١٨٢٠-١٨٢١) وتوسع أبناؤه من بعده ، بدأ أبناء محمد علي باشا الإستقلال من تبعية السلطان العثماني تدريجيا وفي عام (١٩١٤- ١٩٢٢م) صار يطلق على الخديوي لقب سلطان مصر ثم ملك مصر والسودان وسيد النوبة و كردفان ودارفور .
بتأسيس الدولة التركية العلمانية في ١٩٢٣م علي يد مصطفى كمال أعترفت دول الحلفاء بالدولة التركية الحديثة ، كما اعترفت المملكة المتحدة باستقلال مصر من دون السودان في عام ١٩٣٦م، وصار السودانيون يتبعون لملك مصر والسودان في ظل الإستعمار الثنائي الإنجليزي المصري على السودان،ولم تتشكل للسودانيين أي شخصية مستقلة بهم ، كما لم تخضع الأراضي السودانية على الإطلاق للدولة التركية الحديثة التي أسسها مؤسس دولة تركيا الحديثة كمال أتاتورك ، وكان أتاتورك علمانيا وقوميا تركيا حصر نفسه في قضايا بلاده،وصار مصدر إلهام للشعوب الأخرى والقيادات القومية في أوطانها من أمثال أمان الله خان في أفغانستان ورضا بهلوي في إيران وأدولف هتلر في المانيا والحبيب بورقيبة في تونس وجمال عبد الناصر في مصر وأحمد سوكارنو في أندونيسيا وغيرهم لذلك لا صلة للدولة التركية الحديثة التي تأسست في عام ١٩٢٣م بإستعمار محمد علي باشا وأبناءه من بعده للسودان.
المواطنة المشتركة :
في أواخر عهد الملك فؤاد الأول وفي عهد إبنه الملك فاروق تطورت العلاقة ما بين ملك مصر والسودان إلى مرحلة العلاقة ما بين ملك مصر وشعب السودان الذي كان له عليه الحكم الإعتباري ،والذي كان يحكمه بالفعل الحاكم العام الإنجليزي الذي يتم ترشيحه بواسطة بريطانيا ويقوم بتعينه ملك مصر. في ظل تلك الإزدواجبة ترعرعت الحركة الوطنية السودانية تحت عباءة الدولة المصرية كما وكان الضباط السودانيون الذي يخدمون في الجندية يعملون تحت خدمة تحت التاج المصري و الإستعمار الإنجليزي، وكانت حركة الضباط السودانيون الأحرار وجمعية اللواء الأبيض قد تأسست ضد الوجود البريطاني في السودان وليس بالضرورة الوجود المصري، وحينما انتظمت الأحزاب السودانية في تكوينات سياسية لخوض إنتخابات أول برلمان سوداني ، وبدعوة من مصر توحدت المجموعات الإتحادية بالقاهرة تحت مسمى الحزب الوطني الإتحادي برئاسة السيد إسماعيل الأزهري ومحمد نور الدين نائبا له وضمن قيادته الشيخ علي عبد الرحمن ، وأعلن الحزب الوطني الإتحادي ان من مبادئه الأساسية العمل من أجل وحدة وادي النيل، وساندت القاهرة الحزب الوطنى الإتحادي في الإنتخابات العامة التي جرت في نوفمبر ١٩٥٣م .
قبل إنتخابات ١٩٥٣م العامة، شاع الحديث حول وجود خلل في معايير تقسيم الدوائر الجغرافية وعدم مراعاة الكثافة السكانية ، كما وفي التقسيم تم جمع عدة مناطق ذات كثافة سكانية عالية في دائرة جغرافية واحدة، ومنحت المعايير مناطق أخرى عدة دوائر جغرافية، ولو جمعت لتقلصت عددها كثيرا، وحصل الحزب الوطني الإتحادي على أغلبية المقاعد.
في يونيو ١٩٥٥م بدأ تحول الحزب الوطني الإتحادي نحو الإستقلال الإنفصالي بدلا عن الإستقلال الإتصالي الذي تبناه الحزب الوطني الإتحادي عند تأسيسه بالقاهرة في عام ١٩٥٢م ،وظهرت بوادر الخلافات بين الأزهري رئيس الحزب ورئيس الوزراء والقيادي بالحزب محمد نور الدين وزير الأشغال ، وعقب عودة الأزهري من مؤتمر باندونج قام بالتوصية للحاكم العام بإعفاء محمد نور الدين من وزارة الأشغال بموجب المادة ١٨/٢ “٢” من قانون الحكم الذاتي كما سافر الأزهري إلى مناطق غرب السودان وفي ندوة محضورة بالجنينة ذكر بأن البرلمان في أغسطس ١٩٥٥م سيعلن الإستقلال الإنفصالي وليس الإستقلال الإتصالي الذي تحدث عنه ممثل مصر في لجنة الحاكم العام حسين ذو الفقار صبري – نواصل