مقالات الرأي

السخرية السياسية ودورها في سقوط الأنظمة الإستبدادية

بقلم: محمد أحمد إسماعيل (جنكيز)

إن التطور الذي حدث لمفهوم المجال العام وفقاً للنظرية التى صاغها “يورغن هابرماس” بوصفه فضاءًا عمومياً يشتمل علي محددات مبدئية تمثلت في أن المجال العام يجب أن يكون متاحاً لجميع الناس ، وبعيداً عن تدخل يد الدولة المباشرة ، جعلت من الطبيعي لمواقع التواصل الإجتماعي حيزاً إفتراضيا يدخل كفاعل من ضمن أدوات عمل المجال العام وهو تطور للأدوات الأولية التى أستخدمها الناس تطبيقاً لنظرية المجال العام ، وهي الصالونات المفتوحة والمقاهي والأندية ،ويشير هبرماس إلي أن المجال العام يعتمد بالأساس على وجود أُناس متفقين بأن هناك قضايا محددة يجب النقاش حولها وبمقدرتهم تداول الآراء والأفكار المختلفة فيما بينهم.
قياساً على ذلك نجد أن مواقع التواصل الإجتماعي تنطبق عليها شروط المجال العام بما تصنعه من محتوى يساهم فى توجيه الرأي العام وصناعة السياسات العامة والنقاش المفتوح حول مختلف القضايا فى إطار موضوعي يهدف إلى خلق فعل ما.
جاءت مساهمة الفضاء الإسفيري بشكل واضح في سياق الثورات في معظم البلدان السلطوية في الفترة التي وصلت فيها يد السلطة القائمة إلى صالونات النقاش ومقاهي الأحياء كبديل موضوعي وأوسع نطاق ، ولم يسلم هو الآخر من قبضة النظام وأدواته التجسسية الموازية.
تعددت منصات الرأي العام في المحتوى الذي تنتجه منصات التواصل الإجتماعى ، حيث جمع بين الخطابات الحشدوية وفنون الإعلام المختلفة ، ومن بينها مفهوم الإعلام الساخر وخصوصاً السخرية السياسية التي تتخذ من السخرية منهجاً في تحليل وعرض القضايا ، وهو فن مرتبط بحرية التعبير فى النظم الديمقراطية ووسيلة مقاومة ضد الأنظمة القمعية ، وكذلك تعمل السخرية السياسية على توسيع دائرة المهتمين بالشأن العام ومن هم كانوا بعيدين عن معرفة القضايا السياسية خصوصاً فئة الشباب ، ويعتمد مفهوم السخرية السياسية على عدة نظريات متباينة تعمل على تفسير الأهداف والدوافع التى جعلت منها أداة فعالة ومساهمة في سقوط الأنظمة الإستبدادية وتعرية الأيدولوجيا ، ومنها نظرية تخفيف العبء التى تفسر إستخدام الأفراد للسخرية بغرض تخفيف الضغط النفسي والعصبي الناتج عن الغضب من القمع والعنف الذي يمارسه النظام ، ويذهب عالم النفس “فرويد” في بحثه عن موضوع السخرية بأنها تسعى إلي كسر المسلمات والتابوهات عند المجتمع ، كما علق جورج أويل بقوله “ان السخرية والنكتة السياسية بمثابة ثورة صغيرة”.
هناك أيضاً نظرية التفوق ، وهى تفسر أن مستخدم السخرية السياسية يشعر بالتفوق عن الآخر موضع السخرية ، كما تستخدم في السعى للنيل من الأعداء بشكل عام وقولبة آرائهم ومواقفهم السياسية في إطار ساخر ، بغرض تقزيمها وإظهارها بمظهر التناقض وعدم التصديق.
وبتطبيق هاتين النظريتين فى سياق الثورة السودانية نجد إنهما قد ساهمتا بشكل كبير في إدخال خطاب مقاوم ومناصر للثورة بشكل هدم رمزية النظام الإسلاموي القائم ، وزعزع إستقراره ، ولم يسلم البشير من السخرية اللازعة من خطاباته الأخيرة ، كقوله بأن “الكسر في سنه نتيجة لسقوطه من السقالة في أحد البنايات عندما كان عامل طلبة” وخطابه الشهير بمدينة الأبيض “مُش كِدة يا وداد؟!” ، وكذلك تصريحات رموزه أمثال منعم حمزة أو المستضافين فى الإعلام وحديثهم المفارق للواقع.
كذلك نالت تبريرات جهاز الأمن لأحداث العنف التى سوقوها بأنها صنيعة الموساد الإسرائيلي والتى كان يبثها إعلامهم ، وسرعان ما تتكشف أساليبهم بشكل ساخر جعل منها خطاب وحدوي تمثل في شعار ” يا العنصري المغرور كل البلد دارفور” مما حدا بالفاعلين في مجال صناعة النكتة السياسية في الفيسبوك وتويتر بالإلتفات إلي هذا النوع من الخطاب المقاوم لكشف أكاذيب النظام ، وقد ساهم ذلك في كسر حاجز الخوف والخنوع بوتيرة متصاعدة ، ولم يسلم المعارضون لنظام الإنقاذ آنذاك من تلك السخرية ، ومن أبرزهم المرحوم الصادق المهدي في وصفه لبدايات الثورة بأنها “بوخة مرقة” ووصفه لها أيضاً بأنها “ليست وجع ولادة”!.
ما زالت السخرية السياسية تلعب دوراً مهماً في مناهضة الوضع الإنقلابي الحالي ، وتتناول الأحداث بشكل ساخر ، مثل سيناريو مقتل عميد الشرطة وإقفال الكباري بالحاويات وسرقة نعال أركو مناوى أثناء أدائه للصلاة في أحد مساجد مدينة الفاشر وغيرها من الأمثلة التي لا تحصي.
لقد إنتشرت وسط الشباب في الآونة الأخيرة ، ظاهرة التعامل مع الأحداث السياسية وتصويرها بشكل ساخر ، وهي فكرة تقوم بعكس التناقض القائم للحدث في مضمونه العام ، وهي تُعد حالياً الأكثر تداولاً بين رواد التواصل الإجتماعى ، وهي لا تفرز بين الجميع ، بل تدخل كل الفاعلين في المجال السياسي العام في حيز السخرية ، الشئ الذي يعكس بجلاء أن العملية السياسية وممارستها في السودان قد أصبحت مهزوزة الثقة وغير قابلة للتصديق ، وهي حالة تستوجب ضرورة الوعي بمضامين السخرية السياسية وأبعادها العامة ، وما هو المعيار الحديث لتطور السياسة في السودان وإستعادة المصداقية للخطاب السياسي وإمكانيته في خلق إلتفاف عام حوله.

18 فبراير 2022م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى