رؤية الحزب الشيوعي النقدية لمخرجات مؤتمر ايوا للسلام والديمقراطية ٢٠-٢٣ أكتوبر ٣٠٢٣م (٩)
بقلم: الصادق على حسن
المؤتمر القومي الدستوري :
الأستاذ آدم شريف عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ارسل لي رؤية الحزب الشيوعي المنشورة في ٣١/ ٨/ ١٩٨٨م ابان حقبة الديمقراطية الثالثة،الرؤية بعنوان (المؤتمر القومي الدستوري) ، هذه الرؤية سبق وان اطلعت عليها ضمن وثائق الحزب الشيوعي الأخرى، كما والأستاذ شريف اسعفني بها وان استعرض رؤية حزبه حول مخرجات مؤتمر ايوا ، لقد ظل الحزب الشيوعي يمارس التثقيف وتعلية المعارف كما ويُعرض برامجه واطروحاته في قضايا البلاد في الحقب المختلفة ، وهذه محمدة ، فالأحزاب هي مؤسسات عامة ومن حق الرأي العام ان يقف على رؤى وبرامج الأحزاب وأطروحاتها ، فالأحزاب هي المؤسسات المدنية المناط بها إدارة الدولة في ظل الديمقراطية والحريات ، وقضايا الدستور من اهم القضايا التي تخاطب أزمات البلاد بل واهمها منذ ان نالت استقلالها، وتمثل قضايا الدستور حجر الزاوية في كل تجارب وممارسة السياسة السودانية ، إن الجهد الذي بذله الحزب الشيوعي في طرح مشروع المؤتمر الدستوري في ٣١/ ٨ / ١٩٨٨م من الجهود المحترمة بغض النظر عن مدى الإتفاق او الإختلاف حول ما ورد بالرؤية المذكورة ، رؤية الحزب الشيوعي المنشورة عن المؤتمر القومي الدستوري في (٤٣) صفحة، وقد تضمنت الرؤية مقدمة من صفحة (٢-٤)، لمحات من التاريخ من صفحة(٩-١١)، الحزب الشيوعي وقضايا الجنوب تاريخيا من صفحة (١٢-١٣)، إتفاقية اديس ابابا صفحة (١٤)، شكل الدولة ومستقبل الحكم من صفحة (١٥-٢٨)، التطور غير المتوازن من صفحة (٢٩-٣٩)، الهوية والثقافة من صفحة (٤٠-٤٢)، خاتمة صفحة (٤٣). ساكتفي بالتعرض لبعض ما جاء في (مقدمة رؤية الحزب) و(المواقف المتمايزة)، و(شكل الدولة والهوية) ، لقد جاء في مقدمة رؤية الحزب الشيوعي بان كل الشروط الموضوعية لبناء وطن وديمقراطية راسخة واقتصاد مزدهر كانت متوافرة بالرغم من السلبيات وقساوتها، وفي صفحة ٢ من الرؤية ورد الآتي (ان هذه التجارب المريرة القاسية كان يمكن تلافيها، بل وكانت هنالك كافة الشروط الموضوعية لبناء وطن وديمقراطية راسخة واقتصاد مزدهر، غير ان المصالح الضيقة الراسمالية وشبه الاقطاع الثقافي من حقائق السودان الأولية قد دفعت لتنكب هذا الطريق). لقد تناول الحزب الشيوعي تشكيل السودان بواسطة المستعمر التركي ثم الإنجليزي المصري ، وبلورة المهدية مفاهيم الدولة السودانية الوطنية، كما والتأثير السالب لممارسات البرجوازية، ان كل التجارب الإنسانية بها ايجابيات وسلبيات نظم الحكم والتجارب الإنسانية كالشيوعية والاشتراكية و الراسمالية والملكية بغض النظر عن ماهيتها ومدى اتساقها مع مصالح المجتمعات والشعوب، تتطور بتطور الممارسة كسائر التجارب الإنسانية متأثرة بظروفها وزمانها. الولايات المتحدة الأمريكية والتي صارت رائدة الراسمالية الغربية في العالم في تجربة تطورها حتى حقبة الستينات اي قبل ستة عقود ، لم تكن المرأة البيضاء بالولايات المتحدة الأمريكية تمتلك حق التصويت الإنتخابي في الإنتخابات العامة ناهيك عن الزنوج الذين كانوا يطالبون بأساسيات حقوق الإنسان ومناهضة التمييز وحينما ترفض إمراة سوداء الإلتزام بالقانون وترفض إخلاء مقعد جلست عليه بالبص في المواصلات العامة لرجل ابيض بالولايات المتحدة بحسب القانون ساري المفعول، هذه الواقعة تنتج ثورة كبرى من ثورات حركة الحقوق المدنية بالولايات المتحدة ومن اعظمها، لقد كان في ذلك الوقت بالسودان نائبة برلمانية منتخبة وهي الأستاذة فاطمة محمد إبراهيم، وبإجراء مقارنة بسيطة يجد الباحث ان الولايات الأمريكية الأمريكية التي سبقت السودان في نيل استقلالها بقرنين من الزمان ، ظلت متخلفة عن الممارسة الديمقراطية ولم تعترف بالحق المتساوي للمرأة كالسودان ، لقد كانت ممارسة الديمقراطية بالسودان متقدمة على الولايات المتحدة، وقد لا تماثل تجربة السودان أي تجربة اخرى سوى تجربتي كندا واستراليا. ، كان في صالح المستعمر الإنجليزي ان يقوم بانشاء بنية حيوية في مستعمرته السودان في حدود خدمة مصالحه الإستعمارية مثل المشروعات الزراعية كمشروع الجزيرة وملحقاته والسكك الحديدية لنقل المنتجات الحيوانية والزراعية كالقطن لمصانع لانكشير في بريطانيا والفوائد المصاحبة التي كان يجنيها شعوب الدول المستعمرة كالسودان قد لا تكون مقصودة في ذاتها او مخطط لها ،ولكن لم يكن هنالك ما يلزم المستعمر البريطاني بإنشاء بنية تعليمية وعلى رأسها كلية غردون التذكارية (جامعة الخرطوم) لتتجاوز حاجتها للكادر الوظيفي من الكتبة وصغار الموظفين لإدارة المستعمرةوتأهيل الكوادر الإدارية والأطباء والمحامين والضباط الذين ترقوا في الرتب العسكرية وكان النواة قوة الدفاع السودانية التي تأسست في عام ١٩٢٥م لمساعدة الشرطة في حالة الاضرابات المدنية، والحفاظ على حدود الدولة السودانية تحت الإدارة البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية ،وقد ترقى من الضباط السودانيين لرتب رفيعة من أمثال الأميرلاي (العميد) عبد الله بك خليل والباشا (اللواء) إبراهيم عبود وزملاؤهما من الضباط الذين كانوا هم نواة الجيش السوداني المستقل، كما وهنالك المحامون والقضاة أمثال المحجوب وزروق وعقيل والقاضي ابو رنات وهنري رياض والأطباء كالدكتور ادهم وغيرهم كما ونشأت الصحف بكوادرها المؤهلة وعلى رأس الصحفيين احمد يوسف هاشم وحسين شريف وغيرهما ، ما اقصده هنا ان الإستعمار من التجارب الإنسانية التي تستهدف نهب واستغلال موارد الشعوب المستعمرة الطبيعية والبشرية ولكن تجربة الإستعمار البريطاني في السودان لم تكن كتجارب أخرى كالإستعمار الفرنسي في افريقيا خاصة بالغرب الافريقي، إن تجربة فرنسا بالغرب الافريقي كانت تجربة استيطانية لنهب موارد الشعوب وسلبها هويتها الثقافية وربطها بفرنسا ثقافيا واقتصاديا وسياسيا بمثل الحال في بعض دول الغرب الافريقي مثل تشاد والنيجر .
المناطق المقفولة :
كثيرا ما يتم وصف فكرة المناطق المقفولة في ظل الإستعمار البريطاني بان الغرض منها كان في الأساس منع الإندماج بين مكونات الدولة السودانية، وجاء في رؤية الحزب الشيوعي بصفحة ٢ الآتي (لم يكتف الاستعماريون بمفاقمة فقدان التطور الإقتصادي والإجتماعي وانما،وإنطلاقا من سياسة “فرق تسد” ولضرب الحركة الوطنية اعتمدوا العديد من الإجراءات التي وسعت الشقة بين الشمال والجنوب، فسنوا قانون المناطق المقفولة،ومنذ عام ١٩٢٠ منع الشماليون من دخول الجنوب والجنوبيين من دخول الشمال إلا بجوازات مرور ، وأعتبر التحدث بالعربية في الجنوب جريمة وخطر ارتداء الجلابية وقطعت الصلات بين قبائل التماس) صفحة ١٠ من الرؤية، كما وأعاب الحزب الشيوعي على الإستعمار انشاء خمس مدارس أولية فقط بجنوب السودان ومدرسة وسطى واحدة مما كرس الفوارق بين الجنوب والشمال. إن ما ورد في رؤية الحزب من وقائع هي صحيحة، ولكن الأشياء تقاس بظروفها،كما وليس من اهداف المستعمر السكان المحليين، فالإستعمار كان هدفه الأساسي الاستفادة من موارد البلاد ، ولكن التطور المدني في بريطانيا كان قد افضى إلى منع تجارة الرق ليس في بريطانيا فحسب ، بل ومكافحة تجارة الرقيق حول العالم ، لقد كانت ممارسة الرق بالسودان في ظل الإستعمار التركي الذي كان من اغراضه الأساسية الحصول على الرجال (الرقيق) بل كانت لتجارة الرقيق رخص تصدرها اجهزة الدولة المستعمرة وتجدد التراخيص بالرسوم في ظل التركية ، كما كانت تجارة الرقيق ممارسة بواسطة سودانيين من امثال الزبير باشا رحمة وابنه سليمان وإدريس ابتر وشقيقه اسماعيل وغيرهم من الأسر والأفراد،بل كان للزبير باشا زرائب لتجارة الرقيق بجنوب السودان وأسس لنفسه جيشا من الرقيق (البازنقر) ووقتذاك كانت بريطانيا بدأت مكافحة تجارة الرقيق، كما ومن ناحية أخرى ،لم تكن سياسة بريطانيا بالنسبة للمناطق المقفولة لأغراض منع الإندماج بين مكونات الشعوب المستعمرة ، وليس هنالك ما يشير لذلك كما الرائج بين السودانيين، لقد كان الإستعمار البريطاني يستهدف الحصول على موارد الدول المستعمرة كالسودان ، ولكن ليس على سبيل التأبيد ، إن التطور التاريخي للتشريع والذي بدأ منذ ١٩١٠م بتكوين مجلس الحاكم العام ، فالمجلس الاستشاري لشمال السودان في ١٩٤٣م ، فالجمعية التشريعية ١٩٤٨م ، والبرلمان الأول في ١٩٥٣م ، والوقائع المصاحبة للتطور التشريعي والبرلماني تكشف بان المستعمر البريطاني كان يستهدف ضمن امور اخرى من فلسفة المناطق المقفولة عدم طمس هويات شعوب المناطق المقفولة، فلهذه الشعوب حقها الإنساني في الحفاظ على هوياتها الثقافية ، ومن الوسائل التي انتهجتها بريطانيا ، اغلاقها على نفسها ومنعها من الإختلاط الذي قد يؤدي إلى طمس هوياتها الثقافية طالما استغلت ونهبت ثرواتها.
تجارب الشعوب :
الدول التي وظفت التجارب الإنسانية التي مرت بها ولم تركن لمحاكمة التاريخ،نهضت، إن غالبية شعوب العالم مرت بتجارب الإستعمار وتجارب اخرى مريرة ومن اقساها تجارة الرق، وهي من افظع التجارب الإنسانية، ودولة مصر من الدول التي خضعت لأنواع من الإستعمار من قبل الميلاد فقد خضعت مصر للهكسوس في عام ١٦٤٨- ١٤٥٠ ق.م ومملكة النوبة لحوالي مائة عام ٦٦٣ قبل الميلاد و الأشوريين ٦١٧ ق. م والحيثية ١٢٧٤ ق م والفرس ٣٥٨ واليونانيون ٣٣٢ ق م والبطلميون ٣٣٠ ق م،الرومانيون ٣٠ ق م، البيزنطيون ٣٣٠ م ، العثمانيون ، الفرنسيون ١٧٩٨ والبريطانيون ١٨٨٢ و اسرائيل سيناء ١٩٦٧، وارتبط بناء الدولة المصرية الحديثة بأسرة محمد علي باشا حتى أخر ملوكها الملك فاروق كما وذابت مصر في الثقافة العربية، كما وفي التاربخ ان الأسكندر المقدوني هو من قام ببناء الأسكندرية كما والمعز لدين الله الفاطمي بنى القاهرة التي تطلق عليها بقاهرة المعز ، وتمثال إبراهيم باشا وهو يعد من اهم الشخصيات التي حكمت مصر معلما من معالمها البارزة تكشف مرحلة من مراحل الدولة المصرية التي احتضنت العديد من الثقافات التي شكلت انسانها، ولكن المعضلة في السودان عدم النظر لهذه التجارب الإنسانية التي مرت بها البلاد،في سياقها ودورها في زمانها ومدى مساهمتها في تشكيل الهوية السودانية ، كما والركون إلى قصص عن وقائع لا تمت إلى الحقيقة بصلة .في دولة هشة متعددة الأعراق والثقافات.
المؤتمر القومي الدستوري :
هنالك عدة كيانات وتنظميات سياسية وحزبية تطرح فكرة المؤتمر الدستوري او المائدة الدستورية وغيرهما باعتبار ان ذلك هو المدخل لإقرار الدستور الدائم للبلاد ولكن مهما كانت وجاهة تلك الأطروحات، تظل المعضلة في كيفية تحقيق الإلزام بالنتائج امام الأجيال المتعاقبة، وحيثما تم تجاوز قواعد التأسيس، سيظل الباب مفتوحا للصراعات والمنازعات بين الأجيال، كما وستتوارث.
إن عدم التمسك بقواعد التأسيس التي قامت عليها الدولة السودانية ، يعني ببساطة إعادة الحال إلى ما كان عليه قبل استقلال البلاد، وإذا عادت البلاد في هكذا اوضاع إلى اوضاع ما قبل استقلالها ، ستبرز لا محالة، دعاوى ومطالب تكوين دول داخل الرقعة الجغرافية الحالية للسودان.