مقالات الرأي

طفولتي في دارفور….!!

بقلم: عمار إسماعيل (فلسفة)

كانت طفولتي في دارفور مجرد خيال في هذه الحياة، فمنذ طفولتي قد وجدت هذه الأرض مهجورة…!!

في ليلة شديدة البرد، ومن دون سابق إنذار تفاجأ الجميع بظهور أناس يحملون أسلحة، ويمتطون خيولاً ويطلقون أعيرة نارية تخرج من فوهات بنادقهم، مصوبة نحو الأبرياء العزل…!!

عمّ الخراب قريتي الوادعة، أُستشهد من أُستشهد، وجُرِح من جُرح، وقليل من نجا بجلده، وفر إلى الوديان والكهوف بلا طعام أو مأوي أو غطاء من البرد..!

ما زالت أتذكر تلك المآسي التي حدثت في تلك الليلة، حيث إحتضنتني أمي في صدرها
ولم تحمل غير وسادة غطت بها وجهي لتحميني من البرد القاري، في
أوضاع عمتها الفوضى والخراب…!!

سألت أمي: من هؤلاء؟! ومن أين أتوا؟وما هي دواعي الذي حدث؟ ولماذا حدث ما حدث؟وأين الحكومة؟!.

لم تجبني أمي، وقطعنا مسافة بعيدة عن القرية.
فقالت لي: إنهم (الجنجويد) يا وِلّيدي…!!

كانت ليلة مليئة بأصوات المدافع والبنادق
أصوات ورائحة البارود، أشتعلت النيران في كل مكان، فقد مر علينا اليوم
كألف عام…!!

عندما حلّ الصباح وأشرقت الشمس، وجدت الأرض قد إمتلئت بالدماء والحزن بادي على الوجوه، وجثث الموتى في كل مكان، وأنين المصابين الذين لم يجدوا علاجاً سوي الأدوية البلدية ولحاء الأشجار، وقليل من الناس قد تمكنوا من النجاة، والذي نجا
قد تركت تلك المأساة بداخله أحزاناً دائمة وجروحاً لن تندمل…!!

تحطمت الأمنيات والآمال، التي كنا نعيش عليها بعد هذه الحادثة، وفقدنا كل شيء، المحاصيل الزراعية والمواشي وكافة الأموال والمقتنيات، وبين ليلة وضحاها أصبحنا فقراء، نفترش الأرض ونلتحف السماء، وننتظر قدرنا المجهول…!!

رأيت بجانبنا رجلاً عجوزاً يصلي ويدعو ربه متضرعاً وطالباً الرحمة والمغفرة للموتى، صلاة رجل مضطر لا يملك غير الدعاء والتضرع إلى الله، صلاته تكللت بتاج الآمال والرجاء…!!

سألت أمي: هل تستجاب دعوته؟
تغيرت ملامحها، ولم ترد ولم تزجرني، ربما لأني كنت طفلاً صغيراً، ولكن من خلال ملامح وجهها أدركت عدم رضاها عن سؤالي، ففهمت ذلك فصمت.

قلت لها: في دارفور يا أمي أصبح البقاء للأقوى فقط،
دارفور التي تلد أبنائها فيُقتلون ليلاً ونهاراً دون ذنب، دارفور التي تودع يومياً عدداً ليس بالقليل من بناتها وأبنائها كما يودع أطفال المدارس بعضهم بعضاً، دارفور لم تجف فيها الدماء بل ما زالت سائلة وكل يوم تختلف المواقع، والإعلام الرسمي يكذب للعالم، أننا بخير،
وسياسيون يتبادلون الورود مع القتله مثل العشاق في الحدائق…!!

فقد صدق الكاتب والروائي عبد العزيز بركة ساكن
في رواية (صلاة الجسد)حينما قال: العالم لا يشم صراخ الأرواح بدارفور..!!

عندما أتذكر طفولتي وتلك المآسي والنكبة التي رأيتها، تسيل دموعي دونما إستئذان، حزناً وألماً…!!

وطن لم يقدم لأبنائه غير الموت ، وقد بخل عليهم بالحماية التي أصبحت لفئة دون الآخرين، وتم بيع الآخرين بثمن بخس في سوق الدلالة والسمسرة السياسية…!!

صرخت والكلمات تهرب من فمي، إن هذه البلاد لم تعد بلادي، وأن مسرح الحياة لم يكن يوماً عادلاً معنا، إلا في قضية الموت…!!

لست أنا فقط من تذوق المعاناة، بل
الآلاف من الأطفال مثلي قد تذوقوا أشد أنواع المعاناة، أطفال لم يكن لهم ذكريات سوى ذكريات الموت والخراب والحرب اللعينة، إن طفولتي في دارفور كانت مجرد خيال في الحياة…!!

على الهامش:

لا تزال ذكريات الحرب تمثل حضوراً كاملاً في عقول ونفوس الأطفال الذين عاشوا في ظل تلك الحرب المستمرة منذ أكثر من عشرين
عاماً في إقليم دارفور المنكوب،
فإن ذكريات الحرب قد أصبحت شبحاً يلاحق الأطفال في كل مكان ، ويسيطر الخوف على ذاكرتهم وحالتهم النفسية.

مقالات ذات صلة

4 1 vote
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x