منوعات

مُذكرات طبيب شاب


بقلم: مُدثِّر الياس

في ليلة الحادي والعشرون من تَمُوز وأنا بذاك الريف النَّائِي،كنتُ جالساً على أريكة واسعة،ومُتكئاً على منضدة خشبية بالية،عاكفاً على مطالعة بعض دروس الطب الباطن ، يُخيِّم على القرية ظلامٌ دامس، عاصفة رعدية تعوي مًنذرة بهطول أمطار غزيرة،البرق يرسل وميضه ما بين فينة وأخرى، ضوء فانوسي الصغير يخفتُ كُلَّما لسعته لفحة من الأعاصير القادمة عبر فتحات نافذة الغرفة، كان المطر مُنهمراً إنهماراً مُتواصلا، تنقر قطراته السقف نقراً لا يهدأ ،بعضها تنتهز ثقوب النافذة لتلِجُ بالداخل مُغازلة جدران الغرفة، نسماتُ البرد بدأتْ تغزو جسدي المنهك،الذي أعياه العمل الرتيب بمشفى القرية، قرأتُ حتى بدأتْ أجفاني المتثاقلة بالإغماض،ألقيتُ بالكتاب جانباً،بعدها أطفأتُ الفانوس وأوصدتُ باب المكتبة،خرجت راكضاً نحو غرفة النوم والتي لا تبتعد كثيراً عن المكتبة، كان الفناء مُوحلاً تُحدِّق به من دياجي الظلام السَّادرة في حلكتها وقد زادها الضباب عتمة،إنطلقتُ تحت ضجَّة الأمطار وقرعها، خلعتُ عنِّي ثيابي وإستلقيتُ على سريري حالماً بنوماً هنيئاً لا يُصاحبه قرع للباب بقدوم مريض.

ما أن غفوتُ لبضعة دقائق حتى سمعتُ قرعاً في الباب الخارجي، تناهى إلى سمعي صوت ينادي يا دكتور…يا دكتور…
إنه صوت القابلة كِرُّو تِينق كوي ،إستويتُ على فراشي ،وشرعتُ أتحسس ثيابي وحذائي في الظلام، أسرعتُ نحو الباب الخارجي، فتحت الباب،نعم إنها هي القابلة تينق كوي سألتها مُستفسراً ما الأمر؟؟؟
أردفتْ: لقد أحضروا إمرأة من القرية المجاورة ولادتها متعسرة.
بدأ قلبي يخفق خفقاً يكاد أن يخرج من القصف الصدري
حسناً ؛ إذهبي وسآتي للتَّو، بدأتُ أتساءل في سرِّي إمرأة ولادتها مُتعسِّرة؟؟ نعم يمكن حدوث هذا إذ أن الطب لا يقتصر على الملاريا والحمى المعوية، هجر النوم مقلتي فلم أعد أشعر بالنعاس، أضأتُ الفانوس وبدأت أتحسس بقية ما تهمني من أشياء، ما سبب تعسر ولادة هذه الإمرأة؛ ؛؛؛؛وضعية غير صحيحة أم ضيق في الحوض؛ ؛؛؛؛أم علة أخرى أكثر سوءاً، هل أرسلها إلى مشفى المدينة؟؟ نعم ؛ ؛لا؛كلا ؛؛؛إن أرسلتها سأكون حديث الساعة، ستتهامس القابلتان فيما بينهن: (ما هذا الطبيب!!!)؛ يجب أن أفعل كل شئ بنفسي، إستجمعتُ شجاعتي فخرجتُ قاصداً المشفى، الساعة تُشير إلى الثانية صباحاً ،يصدر من المشفى أصوات كما أنَّ الوقت نهارٌ،ولجتُ غرفة التوليد، كانت القابلة سِيمُّو بُورْتُونْق أتيني تحِلُّ محلول الأيودين في وعاء بينما الأخرى كِرُّو تينق كُوي حاملة ميزان الضغط والحرارة، تتمدد على طاولة العمليات إمرأة تبدو أنها في بداية عقدها الثالث، وجهها شاحباً، جعده المرض، تئِنُّ أنيناً من الألم، مُدثَّرة ببطانية حتى عنقها، قلتُ في نفسي يجب أن ألا أتردد أمام القابلات، يجب أن يكون تشخيصي واضحاً من البداية،….ولادة مُتعسرة …..لم أرها سوى ثلاث مرات عندما كنت أعمل كمُتدرباً بمشفى المدينة، إبتلعتُ ريقي، تصبَّب العرق في جبيني رغم برودة الجو، مسحته بكفِّي، بكل شجاعة حدثتُ نفسي: يجب أن أجِسُّ بطنها الآن لأرى ما الأمر وراء تعسُّر ولادتها، إرتبكتُ في بداية الأمر، تقدمتُ نحو المريضة وهي على المنضدة،سألتها عدة أسئلة فيما يخص تاريخها المرضي، إتضح لي أنه حملها الأول، نعم إنه ضيق الحوض …كيف ذالك … لا يمكنني أن أجزم على صحة التشخيص دون أن أجِس بطنها، شرعتُ في جس بطنها، القابلتان تراقبانني عن كثب، طأطأتُ رأسي وكأنَّني أخاطب شخصاً آخر بِيد أنني كنتُ أخاطب نفسي، نعم تشخيصي صحيحاً؛ ؛؛؛إذا ثم ماذا بعد هذا؛؛؛؛ أسئلة عصية على الإجابة تجوب عقلي، ما يجب فعله..كيف ذلك …وبم …وماذا ستكون النتيجة …قلت للقابلات وكأنَّ المتحدِّث طبيب غيري: هذه المريضة تحتاج لعملية قيصرية مستعجلة، هيا أخرجوا الشراشف، هيا أخرجوا مستلزمات العملية، جلستُ على طرف أحد المناضد التي بداخل غرفة العملية؛ ؛؛أفكِّر في كيف يمكنني الخروج من هذا المأزق الذي أوقعتُ نفسي فيه بدراسة الطب ، نعم إنه التطبيب بالرِّيف، تتوقَّع أن تقابل جميع الحالات المستعصية، لا يوجد طبيب غيرك هنا، تخرجتُ قبل عام ونيِّف من الكلية، لم ترى الكثير من حالات الولادة المتعسرة، الطب لا يعرف ذلك، يجب أن تفعل الآن وإلا ….. القابلة تناديني: لقد جهزنا كل شئ يا دكتور..تحركتُ في إرتباك، يجب أن أقوم بدور المُخدِّر والطبيب في آن واحد ….إنَّه الطِّب بالأرياف النائية.

توجهتُ نحو الصنبور،غسلتُ يديَّ إلى المرفقين ،لبستُ عليها القفاذات ، طلبتُ من المريضة الجلوس على عجيزتها لأقوم بتخديرها، جسَّت القابلة بُورتونق أتيني الجزء الأسفل من المريضة فوجدته لا يتحرك، تأكدتُ أنَّ التخدير تم بنجاح، بعدها طلبت من المريضة الإستلقاء على الطاولة لتبدأ العملية…نعم إنها العملية،….. هنا بالذات لا يمكن أن تعكس إرتباكك للقابلتان اللتان ولَّدن الميئات من الحوامل، قبضتُ على المِشرط الجراحي بكل ثقة،العرق بدأ يتصبب في وجهي ولكنه لا يجدي نفعاً إذ عليَّ أن أجري العملية الآن وإلا ….شرعتُ في إجراء العملية والقابلة بشراشيفها تمسح الدموم ،بعد أقل من ربع ساعة أخرجنا طفلاً جميلاً للحياة، القابلة تينق كوي غطَّت جسمه الدافئ بإحدى الملاءات سوى وجهه والذي عبره كان يطلق نحيباً رقيقاً، الشراشف المدماة الملقاة على فناء غرفة العملية أدخلت فيني شعوراً بالإنتصار، ولكن الأفكار ما زالت تشاغل مهجتي، ماذا بعد هذا؟؟؟….. هل ستكون الأمور على ما يرام بعد أن سيقت المريضة إلى العنبر؟؟؟….، قالت لي القابلة بورتوتق أتيني: يا دكتور لقد أجريت العملية بكل مهارة وثقة، هكذا كان يفعل الطبيب الذي سبقك إلى هنا، طأطأت رأسي مجيباً …..نعم هي لا تعرف ما يجري بداخلي، رددتُ جملتها الأخيرة: هكذا كان يفعل الطبيب الذي سبقك إلى هنا! !!!! وماذا كان سيكون الحال إذا لم أقم بالعملية!!!!! ، كنتُ أتمتم ببعض الكلمات التي لم أكن أفهمها وأنا ذاهب إلى الصنبور لكي أغسل يديَّ بعد أن فرغتُ من العملية، فتحتُ الصنبور وأنا أنظر لقسمات وتعابير وجه كلتا القابلتنان، هل تتهامسان أم لا؟؟؟….كانت تعابير وجه كلتاهما توحي بالفرحة التي تنتاب دواخلهما عندها أحسستُ بالإنتصار أكثر مما أحسسته في السابق ….

وللمداد بقية

مقالات ذات صلة

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x