فيضان النيل الأبيض: بين الطبيعة وفعل الإنسان

بقلم: نصر الدين دهب
لطالما عرف النيل الأبيض بالحليم مقارنة بتوأمه النيل الأزرق الذي يتصف بجريانه الموسمي الغزير. ومع ذلك، شهد هذا العام فيضانا غير معتاد أغرق مدنا وقرى على ضفافه. فما الذي تسبب في هذا الفيضان؟ وهل كان بفعل الطبيعة أم الإنسان؟
النيل الأبيض: المسار والروافد
يبدأ النيل الأبيض من مدينة ناصر بجنوب السودان، حيث يلتقي نهر الجبل، الذي ينبع من بحيرة فيكتوريا والبحيرات الكبرى، بنهر السوباط القادم من الهضبة الإثيوبية. يسير النهر عبر عدة سدود في جنوب السودان قبل أن يصل إلى منطقة جنقلي، حيث يصبح غير منتظم بسبب التضاريس والمستنقعات، قبل أن يتخذ مسارا أكثر اعتدالا شمالا. يستقبل النيل الأبيض روافد أخرى مثل نهر العرب وفشودة وبعض الخيران الموسمية، ثم يستمر نحو السودان.
سد جبل أولياء: تاريخ وأهمية
أنشأت الحكومة المصرية سد جبل أولياء في ثلاثينيات القرن العشرين (1933)، وتم افتتاحه رسميا عام 1937 بهدف تخزين المياه خلال موسم الخريف، مما يتيح للنيل الأزرق المرور بحرية. بعد عقود من تشغيله، سلم السد إلى الحكومة السودانية عام 1977.
رغم أهميته في حياة السكان المحليين، حيث تمتد بحيرته لمسافة 300 كيلومتر جنوب السد، ويعتمد السكان على الزراعة وصيد الأسماك كمصادر رئيسية للعيش، إلا أن السد لم يخضع للصيانة والتحديث اللازمين منذ إنشائه. تتحمل الحكومة المصرية جزءا من المسؤولية، إذ أنشأت السد بتقنيات أصبحت قديمة ولم يتم الاستثمار في تحديثه قبل تسليمه، أما الحكومات السودانية المتعاقبة فلم تول السد العناية الكافية ما جعله عرضة للتدهور.
أسباب الفيضان: مزيج من الإهمال وفعل الإنسان
يمكن تلخيص الأسباب الرئيسية لفيضان النيل الأبيض هذا العام في النقاط التالية:
- غياب التأهيل والصيانة
الإهمال في صيانة السد وتأهيله يعود إلى فترة الإنقاذ التي استمرت 30 عاما، إضافة إلى فشل الحكومات السودانية المتعاقبة، وعدم التزام الحكومة المصرية بتحديث السد قبل تسليمه. - ضعف الإدارة والمراقبة
السدود تحتاج إلى أنظمة تشغيل دقيقة ومراقبة مستمرة، وهو ما غاب عن سد جبل أولياء بسبب الحروب والانشغال السياسي في الخرطوم. - الأمطار الغزيرة في دول المنبع
شهدت دول حوض النيل كميات أمطار غير مسبوقة هذا العام، ما أدى إلى زيادة تدفق المياه نحو السودان. - الإغلاق المتعمد للسد
ترددت شائعات عن قيام قوات الدعم السريع بإغلاق السد لإغراق مناطق جنوبه، ما تسبب في تفاقم الوضع. ورغم عدم وجود أدلة قاطعة، فإن هذا السلوك يتماشى مع أساليبها التخريبية. - غياب الإنذار المبكر
تتحمل حكومة بورتسودان المسؤولية عن عدم تحذير المواطنين مسبقا من خطر الفيضان، مما ضاعف حجم الكارثة.
تأثير الفيضان على السكان
واجه سكان القرى والمدن الواقعة على ضفاف النيل الأبيض الفيضان بجهود شعبية عبر أكياس التربة والحواجز المؤقتة، لكن هذا العام كان الفيضان أقوى مما أمكن السيطرة عليه، ما أدى إلى غمر مدن بأكملها، تاركا السكان في معاناة كبيرة.
التوصيات والحلول
- إعادة تأهيل وصيانة السدود
ضرورة بدء عملية تأهيل شاملة لسد جبل أولياء بمشاركة خبراء دوليين ومحليين لضمان استمراريته. - تطوير أنظمة تشغيل ومراقبة
تحديث نظم إدارة السدود وتزويدها بتقنيات حديثة لرصد التدفقات المائية وإدارتها. - تعزيز التعاون المحلي والدولي
يجب أن تتحمل مصر والسودان مسؤولية مشتركة لضمان سلامة السدود، إلى جانب استقطاب دعم دولي لتحصين المناطق المهددة بالفيضانات. - إنشاء نظام إنذار مبكر
وضع أنظمة فعالة لتحذير السكان من الكوارث المتوقعة وتوجيههم لإجراءات السلامة.
خاتمة
إن فيضان النيل الأبيض هذا العام يظهر خطورة الإهمال الإداري وفعل الإنسان في التسبب بكوارث طبيعية تهدد حياة السكان. تتحمل الحكومات المتعاقبة، سواء في مصر أو السودان، مسؤولية غياب التأهيل والصيانة، ويظل الحل في اتخاذ إجراءات عاجلة لإعادة تأهيل السدود وتحسين إدارتها وضمان سلامتها لتجنب كوارث مماثلة مستقبلا.