لماذا تدابير الأمم المتحدة ؟ انهيار أجهزة الدولة السودانية (٢)
بقلم: الصادق علي حسن
مشروع دولة ١٩٥٦م مرجعيته قواعد تأسيس الدولة السودانية الخمس المجازة في عام ١٩٥٥م، وأطرت القواعد المذكورة نظم تأسيس الدولة السودانية ليتم مباشرة التأسيس بواسطة شعب السودان من خلال إنتخابات عامة لإنتخاب جمعية تأسيسية من كل أقاليم السودان ، لتضع الجمعية التأسيسية المنتخبة ديمقراطيا الدستور الدائم للبلاد الذي يعبر عن شعب السودان بتنوعه الثقافي وتعدده والعرقي. أقرت القواعد التأسيسية للدولة السودانية استحقاق جنوب السودان للحكم الفيدرالي وبضمان ذلك الاستحقاق دستوريا ، وافق نواب الجنوب بالبرلمان بالتصويت لاستقلال الدولة ، كما وحددت القواعد شكل الدولة السودانية وشعبها ونظام حكمها الديمقراطي ، لقد كانت توصيات اللجنة التي شكلها الحاكم العام للسودان السير جورج هاو برئاسة الخبير القانوني القاضي أستانلي بيكر ملهمة لأعضاء برلمان ١٩٥٣م الذين أجازوا مشروع استقلال السودان من داخل البرلمان فايداع الوثائق الى الأمم المتحدة وبموجب ذلك تم الإعتراف بالدولة السودانية المستقلة في الأول من يناير ١٩٥٦م عقب الإعلان مباشرة .إن مدخل أزمات البلاد بعد استقلالها انشغال القيادات والأحزاب التي أعلنت أستقلال السودان من داخل البرلمان بالاجماع من داخله بالتنافس الحزبي والكيد السياسي ومحاولات الاستئثار بالحكم ، والجمع ما بين وظيفة التأسيس الدستوري ومهام التشريع البرلماني وممارسة الحكم في مرحلة وأحدة دون مراعاة مقتضيات التأسيس ففشلت في القيام بمهام إستيفاء متطلبات التأسيس الدستوري السليم للبلاد وظلت البلاد التي تجاوزت العقد السادس والنصف منذ استقلالها في مرحلة مشروع التأسيس وتعاقبت الأجيال وهي تتوارث النزاعات السلمية وغير السلمية ، ومرت الديمقراطيات الثلاث الأولى والثانية والثالثة ولم تكن هنالك أية دروس، مستفادة وكثرت الأحزاب وحملة السلاح وتعددت المنابر حتى وصلت البلاد إلى حافة الحرب الأهلية والفوضى الشاملة والتقسيم ، لقد تعرضت الديمقراطية الأولى لإنقلاب نوفمبر ١٩٥٨م وعقب ثورة أكتوبر ١٩٦٤م المجيدة لم تكن هنالك اي دروس مستفادة من تجربة الديمقراطية الأولى والحكم العسكري في ظل الديمقراطية الثانية ومن الأخطاء الفادحة دفعت قوى ثورة أكتوبر المجيدة الشارع السوداني الثائر للمطالبة بأسقاط استحقاق جنوب السودان للحكم الفيدرالي بشعارات انفعالية جوفاء (لا فيدرالية لشعب وأحد) ووقتذاك حذر نواب جنوب السودان بالبرلمان من مغبة نقض العهود الدستورية واستحقاق الجنوب للفيدرالية ووصفوا ذلك اليوم باليوم الأسود على وحدة البلاد، في الديمقراطية الثالثة ١٩٨٥م ونتيجة لبروز دور الجيش وكان ضامنا لعدم عودة النميري للحكم بعد عزله بثورة رجب /ابريل ١٩٨٥م، تم تشكيل المجلس العسكري الإنتقالي برئاسة المشير عبد الرحمن سوار الذهب ورفاقه من العسكريين ليمارس المجلس العسكري الإنتقالي أعمال السيادة التشريفية نتيجة لظروف البلاد. وتهديدات النميري بالعودة إلى الحكم وكان ذلك يتماشى مع مهام الجيش في حماية الدولة وإن كان ذلك خرقا للدستور ، لقد أسندت السلطة التنفيذية بكاملها لحكومة مدنية برئاسة د الجزولي دفع الله وهي حكومة اختارتها قوى الثورة ، كذلك تم تشكيل المجلس العسكري الإنتقالي المذكور بموجب قانون قوات الشعب المسلحة ونظم عمل الجيش ، لقد كان دستور السودان المؤقت لسنة ١٩٨٥م عبارة عن استعادة لدستور ١٩٥٦ بتعديلات عام ١٩٦٥م . ولكن عقب نجاح ثورة ديسمبر المجيدة ٢٠١٨م في الإطاحة بالبشير ، أظهرت قوى الحرية والتغيير التى قامت بتمثيل الثورة والتفاوض مع عناصر اللجنة الأمنية للنظام البائد ضعفت قدراتها وتهافتها للسلطة على أفضل الفروض وصارت مثل موضع كعب أخيل في اسطورة هوميروس بالنسبة للثورة التي قدمت انبل ارواح الشباب من أجل الديمقراطية والحريات ، تحولت مطالب الثورة و شعاراتها إلى تسويات ضمنت لعناصر اللجنة الأمنية الاستمرار في الحكم. لقد كان يمكن الإستفادة من تجربة التعديلات التى تمت في عام ١٩٨٥م بالرغم ما بتلك التجربة من عيوب وتوظيف دور الجيش في الحيلولة دون عودة البشير ونظامه كما حدث عقب ثورة ابريل ١٩٨٥م ، واستعادة الوضع الدستوري الذي تم الإنقلاب عليه في ٣٠/ يونيو / ١٩٨٩م وتكوين حكومة مدنية صرفة بواسطة قوى الثورة وتشكيل مجلس عسكري بموجب قانون قوات الشعب المسلحة على غرار مجلس سوار الذهب الذي تم تشكيله في عام ١٩٨٥م ليمارس المجلس العسكري أعمال السيادة التشريفية باعتبار ان الجيش من الأجهزة الإدارية بالدولة المناط بها سد الفراغ في أجهزتها في ظل الظروف الإستثنائية خاصة ان فترة التشاور وعدم الإتفاق بين قوى الثورة على من سيشغل مهام الوظيفة السيادية قد تطول، كما ولا يمكن ترك وظيفة رمزية الدولة السيادية فارغة وغير مشغولة أثناء التشاور على تسمية أعضاء مجلس السيادة بمثلما حدث لاحقا كمثال من لت وعجن وتأخير في أختيار اعضاء مجلس السيادة بموجب الوثيقة الدستورية لسنة ٢٠١٩م المعيبة.
الخطأ الجسيم الذي لا يمكن أصلاحه :
أرتكبت قوى الحرية والتغيير الخطأ الذي لا يمكن اصلاحه، فلأول مرة في تاريخ البلاد تقوم قوى سياسية عقب ثورة جماهيرية انهت دكتاتورية عسكرية غاشمة بتقنين الوضع الدكتاتوري الإنقلابي المنقلب عليه وتخويل العناصر الأمنية لذات النظام الدكتاتوري بحق تقاسم السلطة ورئاسة المجلس السيادي باتفاق مكتوب وممهور بتوقيع من يمثلها، تم التوقيع على الوثيقة الأولى في ١٧/ يوليو/٢٠١٩م من دون اي تروي او استدراك ،فالإعلان السياسي في ٤/ ٨/ ٢٠١٩م بحضور وسطاء الإتحاد الإفريقي وفي احتفال رسمي مشهود في يوم ١٧/ ٨/ ٣٠١٩م بحضور وسطاء وشهود من رؤساء دول الجوار تم ابرام الإتفاق الرسمي الذي خول العسكر من عناصر اللجنة الأمنية للنظام البائد حق اقتسام السلطة وممارسة العمل السياسي ووقع على تلك الوثائق محمد ربيع ممثلا لقوى الثورة والفريق محمد حمدان دقلو قائد قوات الدعم السريع ممثلا للمجلس العسكري وبذلك خرجت البلاد بفعل قوى الحرية والتغيير عن مسار استعادة الحياة الدستورية للبلاد، كما اسبغت المشروعية لقوات الدعم السريع وتعتبر هذه القوى بمقياس المنطق والعقل شريكة بصورة أساسية في كل ما يحدث الآن بالبلاد .
انقضاء مشروع دولة السودان المبني على قواعده التأسيسية المجازة في ١٩٥٥م ودخول البلاد مرحلة التجزئة والتقسيم :
الوقائع على الأرض تؤكد بان الوضع الحالي بالسودان قد تجاوز مشروع دولة ١٩٥٦م ودخلت البلاد فعليا مرحلة التجزئة والتقسيم ولم يعد مجديا تكرار المناداة بالتمسك بقواعد التأسيس والمحافظة على مشروع دولة السودان إلا من خلال التمسك بتدابير الأمم المتحدة والوثائق المودعة لديها بأعتبارها كاشفة لمرجعية تأسيس الدولة السودانية وهذا يتطلب تفعيل الدور المدني ومطالبة الأمم المتحدة باعمال تدابير الحماية وذلك لتجاوز الوقوع في مثل تجارب الصومال والعراق وليبيا قبل فوات الأوان .
مشروع محمد بن زايد :
الرئيس محمد بن زايد مشروعاته وطموحاته في افريقيا ولعب أدوار في الشرق الأوسط وأضحة، المؤسف حقا إن دولة دولة السودان بما لها من موارد معدنية وثروات طبيعية وبشرية وتجارب معتبرة صارت مطية لتحقيق طموحات رئيس دولة الإمارات محمد بن زايد الذي عمره في الحياة لا يتجاوز سنوات عمل رئيس مجلس السيادة والقائد العام لقوات الشعب المسلحة السودانية الفريق اول عبد الفتاح البرهان، لقد تمكن محمد بن زايد رغم قل تجاربه السياسية بل وقلة تجارب بلاده التي تأسست في سبعنيات القرن الماضي من اختراق قيادة الدولة السودانية ، وقد تهيأت الظروف وأسباب الاختراق بعد ان تباعدت المسافات بين النظام البائد وشعب الدولة كما وعقب محاولة النظام البائد الفاشلة لاغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك بأديس أبابا ارتمت قيادة النظام البائد في أحضان النفوذ السعودي والإماراتي وعلى يدي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس الإماراتي محمد بن زايد بلغ الحال بالدولتين لإستخدام الجنود السودانيين كجنود مستأجرة (مرتزقة) في حروباتهما باليمن وكان غاية الرئيس المعزول البشير ونظامه الحصول على العائد المالي كذلك استخدام المعزول قوات الدعم السريع في حرب اليمن ليمكن أخوانه و الأقربين فالاقربين من الاستثمار في تفويج الجنود للقتال في اليمن وللسعودية والإمارات تحت غطاء الدفاع عن الحرمين الشريفين واستمر الحال عقب الثورة وفي ظل الحكومة المكونة بشعاراتها . في أواخر عهد البشير وبداية تولى عناصر اللجنة الأمنية للنظام البائد بقيادة البرهان للدولة بالمناصفة مع قوى الحرية والتغيير ، توسعت انشطة دولة الإمارات وشركة فاغنر خاصة في دارفور، كما صارت دولة الإمارات وشركة فاغنر تنقل السلاح علنا بالطائرات من السودان ودارفور إلى دولة ليبيا وأمام محاكم العمل السودانية تم قيد دعاوى العمل التي قيدها عمال سودانيون طالبوا بحقوقهم في مواجهة فاغنر بمحكمة العمل الخرطوم وكانت المطالبات عن تمسك العمال بعقودات العمل المبرمة للوفاء بالمرتبات و الاستحقاقات الأخرى بالدولار وليست النسخة الثانية بالعملة السودانية وكانت فاغنر ترفض الوفاء بالدولار وحينما طالب القاضي معرفة نوع العمل الذي يستحق عليه المقابل بالدولار كشف العمال بان ضمن عملهم كانوا يقومون بالترجمة ونقل السلاح إلى ليبيا لتتدخل جهات عليا في الدولة وتتم تسوية المطالب بالدولار خارج المحكمة وانهاء الدعاوى المرفوعة وسحب الملفات من المحكمة،كما وهنالك وأقعة تفويج أكثر من ستمائة من الشباب السودانيين إلى دولة الإمارات تحت غطاء العمل في وظائف الحرسات الأمنية ثم تدريبهم بالإمارات على الأسلحة المتقدمة ونقلهم إلى رأس لانوف بليبيا لحماية إستثمارات محمد بن زايد فيما تسمى بآبار الشيخ زايد . هذه من كثير .
إن هذه الحرب العبثية لم تقم فجاءة وهي الآن في طريقها للخروج عن دائرة سيطرة أطرافها لتتحول إلى حرب مجتمعية وأهلية – نواصل.