مقالات الرأي

أزمة الإنتقال والخواء السياسي !!

بقلم: الله جابو حمدان

اليوم يعيش السودانيون تحت مظلة قوة انقلابية لا تعترف بالآخر في الوطن إلا بمقدار خضوعه لأهوائها وشروطها، ومن الواضح أنهم لا يدركون هول المسؤولية التي انتزعوها عنوة، وجلي أنهم لا يمتلكون القدرات الكافية لإدارة شؤون البلاد، ولكنهم يتمتعون بانتهازية سياسية تقترن بقوة في قمع كل صوت معارض ورأي مخالف، نحن اليوم أمام مشهد غير مسبوق في تاريخ السودان، تتعاظم فيه المخاطر وتتكاثر صور الفقر والتفسخ المتسارع لمقومات الدولة، ويغيب الحرص على الوطن، ويستمر أثناء ذلك التكالب بين السياسيين على الأوهام، وبينما المواطن العادي في حالة من التبلد والقرف وهو يتابع الأخبار التي لا تتوقف بين الأمل الذي لا سند له على الأرض واليأس المطبق على أنفاس الجميع، وحين كان صائدو الفرص يلتقون في القاعات المغلقة مرة تلو أخرى ليبحثوا عن مواقعهم في العهد القادم، كان «البرهان» وبغية افراد اللجنة الامنية للبشير يغرسون مخالبهم في مؤسسات الدولة ويضخمون إعلاميا حجمهم السياسي والشعبي، ويتخفون خلف دور وطني تنقضه تصرفاتهم القاسية ضد كل من لا يسير في ركبهم، ويواصلون فرض إرادتهم على الجميع ويمنحون أنفسهم الأفضلية في كل موقع، كما لو كان الوطن ملكية خاصة يفرضون رغباتهم فيه على الجميع، فهم السلطة الحاجبة والمانحة التي تجبر الجميع على قبول من يدينون لها بالولاء، فتصبغ عليهم الألقاب وتزينهم بشهادات الكفاءة والنزاهة والحرص على الوطن، وبوضع عناصرهم في كل منصب يزيد من سيطرتهم على مفاصل المؤسسات الأمنية .‎

جاء البرهان بعد فشل محاولتة الانقلابية، بحديثا فاضحا لنواياهم الحقيقية في الاستيلاء على السلطة كاملة دون شريك، إلا من كان خاضعا وخانعا، وفي وسط الأمواج العاتية التي تكاد تطيح بكل آمال السودانيبن لم يعد من أمل يحدوهم إلا أن يعلن «البرهان» والذين يمتطون القوة لقسر الآخرين على الرضوخ لرغباتهم وأهوائهم بأن الأمر زائل لا محالة، وأن انكسار الأغلبية الساحقة وتوهم القدرة على استصغارها أمام قسوتهم وعنفهم اللفظي والمادي لا يعني أنهم حملة راية الحق والإنصاف، وما عليهم إلا استذكار تاريخ السودان وكتابة الشعبي والتمعن في كيفية انكسار شوكة من جعل القوة وحدها دليلا على أحقيته في الحكم، وحتما سيواصل «المكون العسكري» صلفهم باستخدام القوة في مسعاهم لتفريغ الوطن من محتواه الحقيقي المتمثل في المساواة والعدالة والإنصاف، ولكن عليهم أن يعلموا أن تحالفاتهم الفطيرة تلك (هي في واقع الأمر نقيض كامل لذلك) وإنكارهم حق الآخرين في الوطن، سيمثلان شرارة العودة إلى الشوارع لحماية مكتسبات الثورة المجيدة، لان الواقع السوداني المنهار لا يتحمل مزيداً من الاصطفافات الحادة عبر جبهات سياسية او تحالفات جديدة، لن تفيد في معالجة الازمة بل ستزيدها تعقيداً”.

أن هذا الوضع الاجتماعي والسياسي الهش والفوضوي الراهن أفرز فراغًا على مستوى النخب السياسية، وهو دون شك ناتج عن حالة خواء وعطب سياسي للنخب المتصارعة، حيث عجزت هذه الفئة – أي الشخصيات الوطنية باختلاف انتماءاتها الإيديولوجية – عن استيعاب مراحل التحول التي أعقبت التغيير على مستوى نظام الحكم من الشمولي إلى الديمقراطي، وفيما يبدو أن الأزمة المعقدة التي يعيشها السودانيون على أكثر من صعيد، تسببت فيها النخبة السياسية والقوى المحلية والدولية التي شاركت في إسقاط حكم البشير، لأنها لم تسطر أي خطط إستراتيجية في التعامل مع الوضع الجديد، واقتصر فعلها على مسايرة التحول الديمقراطي دون قراءة واقع المجتمع السوداني وتركيبته،
لذلك عجزت الحكومة الإنتقالية التي عُهدت إليها إدارة الوضع عن إدارة البلاد بشكل فعال، وذلك لأسباب هيكلية تمثلت أساسًا في ضعف شرعية هذا الكيان القائم على نخب سياسية انتهازية وعساكر مؤدلجين ينتمون للنظام البائد، وعدم الإعتماد على قوي الثورة الحية من التكنوقراط و المثقفين وشباب المقاومة.

المعارك السياسية الجانبية التي نشهدها الآن لا تخدم الانتقال الديمقراطي في السودان، و الوضع الاستثنائي الراهن أفقد المكونات السياسية على اختلافها الفاعلية السياسية ومنعها من أدوات العمل الحزبي المنظم، وجعلت شبكات تحالفاتها ونفوذها هشة، وبالتالي تحول المشهد السياسي السوداني إلى نموذج تقليدي يقوم على الصراعات السياسية بين الاحزاب من جانب والمكون العسكري وحركات الكفاح المسلح من جانب آخر.
في السياق ذاته، يمكن القول إن تركيبة المجتمع السوداني التي تأثرت تاريخيًا بالانظمة الشمولية والنخب الانتهازية، يختلط فيها الحزبي بالعسكري بالقبلي بالجهوي وهذا يؤثر كثيرًا على أداء الأحزاب التي تجد نفسها في أغلب الحالات مرتهنة إلى جهة من هذه الجهات دون القدرة على التعاطي السياسي الراهن وفق رؤية وتصور وبرنامج يطرح بدائل حقيقية لمتطلبات الواقع .‎

أن الخروج من هذه الأزمة السياسية يتطلب من النخب المتصارعة التوحد من اجل إنجاح المسار الانتقالي، بالاضافة الي الحفاظ على استمرار وقف الحرب وتحقيق السلام الشامل غير منقوص، والعمل على استقرار الاوضاع الامنية داخليا من خلال استتاب الأمن وتحجيم الصراعات والتفلتات، ثم إنهاء الانقسام السياسي والتجهيز للانتخابات، بالإضافة إلى إرساء إستراتيجية مبنية على التوافق من أجل توحيد المؤسسات العسكرية و الأمنية، و على الصعيد الاقتصادي، العمل على توحيد الميزانية عبر إنهاء انقسام المؤسسة المالية والاقتصادية، وكذلك توفير السيولة في المصارف والسيطرة على التضخم وتقليص تداعياته الاجتماعية، أما على المستوى الاجتماعي‎ الذي لا يقل قيمةً عن السياسي والاقتصادي فإن الحكومة مطالبة بوضع برامج لهيكلة بعض القطاعات الحيوية كالتعليم والصحة والخدمات الأساسية وإعادة إعمار المدن وتنميتها وتوطين اللاجئين و المهجرين.
بالمجمل، إن الأزمة السودانية لا تكمن في غياب الكوادر الوطنية، بل في غياب الإرادة السياسية للأطراف المتنازعة على الحكم التي تفتقد إلى الرؤى الشاملة والواضحة لمعالجة مواضع الخلل، وكذلك إلى تركة النظام السابق التي عززت الانتماءات الضيقة على حساب الوطن، فتشكيل المجلس التشريعي، ودمج وتوحيد القوات المسلحة و النجاح في تنظيم الاستحقاق الانتخابي، تعتبر من أبرز المراحل لبناء و إرساء عقد اجتماعي يحفظ الحقوق ويحدد الواجبات ويعيد رسم ملامح الوطن والمواطن السوداني الجديد وفق شعارات الثورة المجيدة من الحرية والسلام والعدالة.

26 أبريل 2022م

مقالات ذات صلة

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x