مقالات الرأي

سرد مبسط عن العلمانية

بقلم: منير موسي (زناد)

من الواضح أن العلمانية يمكن أن تعود إلى الظروف التاريخية للصراع السياسى الدينى فى أوروبا بقصد الفصل بين السلطة الدينية و السلطة السياسية، وهذه واحدة من أهم إنجازات عصر التنوير, ويلاحظ المتابع لتاريخ أوروبا أن التغيرات الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والفكرية كانت لابد أن تنتهى بالمجتمعات الأوربية التى انتصرت إلى تبني العلمانية، فقد تسارعت عملية التحديث وانتشار التحضر و التصنيع فى أوروبا الغربية مما جعل الدين فى مؤسسة الدولة مستحيلاً . وقد ظهرت العلمانية فى فرنسا فى القرن التاسع عشر عقب الثورة الفرنسية عام (1789) وحتى صدور قانون العلمانية فى فرنسا عام (1905) ،وكان انفصال الدولة عن الدين يتمثل فى مبادىء مثل:

-عدم الإلتزام دستورياً بدين رسمى للدولة.

-عدم تدريس الدين فى المدارس الحكومية.

  • عدم الترويج للإيمان الدينى حكومياً.

-عدم الإنفاق حكومياً على الشئون الدينية , وغيرها من الأمور التى تؤكد حيادية الدولة تجاه الدين.
وهذا مما يؤكد المساواة ومعاملة الأفراد حسب المواطنة.
وقد استهلت الثورة الفرنسية عهدها بحرمان الكنيسة من أملاكها وإمتيازاتها الإقتصادية باعتبارها أقوى وسائل النفوذ والسيطرة.

فالعلمانية أكثر من خيار منطقي للتطبيق في واقع الدولة السودانية ، وبالتالي هي ليست مذهب نؤمن به أو نكفر به وإنما هي شرطاً أساسياً لبناء الدولة الوطنية التي جاءت عبر اتفاقية وستفاليا في 1648م ،والتي من أبرز بنودها أن الدولة تستمد شرعيتها من الشعب وليس من السلطات الدينية، وبالتالي من أبرز ما يميز العصر الحديث ، إنه يستند إلى شيئين أساسيين هما: العقلانية والإنسانية، لذا يسمى بعصر العقل، وعصر إحترام حقوق الإنسان، وكذلك يسمى عصر الحداثة، الذي من أهم أسسه أنه يستند إلى مرجعية العقل وإلى أصالة الفردانية.

كذلك ما يميز عصرنا هو أن ميادين العلم والسياسة والأخلاق “تحررت” من أسر رجال الدين، ليس ذلك فحسب بل صار تفسير الدين على نفس المنوال، بالإضافة إلى “استقلال” هذه الميادين عن الدين أيضا.
وهذه التطورات لم تكن لتتحقق من دون بروز أمرين هما: العقلانية، والإنسانية. فمفكرو الحداثة اعتمدوا على أسس غير دينية في تفسير الأخلاق، والتي على أساسها أصبحت الأخلاق علمانية. وتلك الأسس هي: الطبيعة، والعقل.

كذلك صار العصر الحديث يعبر عن فكر يدّعي أن علاقة الإنسان بالإنسان الآخر أصبحت متساوية، وأن لا وصاية لأي إنسان على الآخر. وفي حين اعتبر الإنسان في الخطاب الديني خليفة الله في الأرض وهذا ما لا يصدقه الكثير من المفكرين والعلماء ، وبالتالي استطاع الخطاب الحداثي أن يكتشف حقيقة الإنسان في شأن التعاطي مع الموضوعات المتعلقة بمشكلات الدنيا وقضاياها. بمعنى أن كل فرد بات يتحكم بنفسه وبمصيره ومصير مجتمعه، وأن حظوظ كل فرد في إدارة المجتمع الذي يعيش فيه أصبحت متساوية، وأن الثقافة المهيمنة باتت ترفض السماح بوجود مواطن من الدرجة الأولى وآخر من الدرجة الثانية، كذلك ترفض إعطاء فرد ما أو جماعة ما أو فكر ما حق اجهاض الرؤى والأفكار الأخرى أو حق الوصاية على الحياة.
وفي الوقت الذي كانت “التقوى” هي معيار العلاقة بين الإنسان والآخر ، وهي المعيار الذي أصبح يتحكم بمسؤوليات الحياة وحقوقها وحرياتها ومشكلاتها وقضاياها هي “العدالة” وليس التقوى.
إن هذا الفصل بين الدين وخالقه من جهة، وبين الإنسان وأمور الحياة وقضاياها ومشكلاتها من جهة أخرى، تعلّق في العصر الراهن بالأخلاق أيضا، التي بات قانونها ينطلق من إرادة الإنسان وعلمه وليس من إرادة الدين.
وعقل الإنسان والطبيعة أصبحا المرجع في إصدار القوانين الأخلاقية والإنسانية ، فلم تعد هناك حاجة للوحي أو النص الديني في ذلك.
كما أن التزام الإنسان بالقوانين الأخلاقية بات ينطلق من مسؤولياته الشخصية وتوجهاته العقلانية وإرادته الطبيعية الحرة، وليس من الأوامر الدينية الصادرة إليه.
بعبارة أخرى فإن العلمانية وعلمها وقوانينها باتت لا تستند إلى الدين.
من جانب آخر، نجد ان العلمانية أصبحت تعبر عن الأخلاق الاجتماعية والفكرية ، أي الهدف منها هو تحقيق الرفاه والسعادة الإجتماعية الدنيوية ولا علاقة لها بتنظيم حياة الناس في الآخرة ، في حين تهدف الأخلاق الدينية الإسلامية إلى تحقيق السعادة الفردية والأخروية. لذلك لم يملك الخطاب الديني الإسلامي تصوّراً واضحاً حول دور الأخلاق في تنظيم العلاقات الإجتماعية ، وهو ما جعل الأخلاق الدينية غير مبالية بقضايا حقوق الإنسان وانتهاكات الإنسان وظلمه وتعذيبه وقتله لأخيه الإنسان ، الدين لا يملك تفسير واضحاً لهذا القضايا من منظور فكري ، رغم ان آلية طرد الرذائل زُرعت فيه. فالخطاب الديني الإسلامي حرك الضمير الأخلاقي لمسلمي السودان ضد المدرّسة البريطانية جيليان جيبونز بسبب اسم دمية اعتبر “إهانة” لرمز المسلمين، فيما لم تتحرك ضمائر هؤلاء مع استمرار قتل مئات الآلاف من المسلمين في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان ، بل ساعدت هذه المجموعات في زرع الأيديولوجيا كسلاح فتاك لتدمير المجتمع بسبب التمييز العنصري والقبلي والديني في المؤسسات التعليمية والعسكرية والمؤسسات السياسية وفي الشارع العام وفي البيت وفي كل أزقة الوطن.
فإن إستقلال الدين كمرحلة لتسير الدولة هو اشبه بالإغتصاب الجماعي الذي يحدث للكثير من الأطفال في الخلاوي بسبب العبادة والعيش من أجل شيء يسمي الجنة!.
ففي حين أن الفردية في الأخلاق لا تتمثل إلا في تهذيب النفس وإصلاح الروح وبث الفضائل في الإنسان وإبعاده عن الرذائل التي من شأنها أن تنقذه من النار في الآخرة وأن تساعده في تنظيم علاقاته الإجتماعية مع الآخرين في الحياة الدنيا وتحقيق رؤى إجتماعية إنسانية، نجد أن العلمانية لا تركّز في الأصل على إصلاح الروح وتهيئة مناخ (يوم القيامة أو الجنة أو النار ) رغم انها ترى أن الفضائل والرذائل الأخلاقية الفردية لابد أن تخدم في النهاية العلاقات الإجتماعية والسعادة الإجتماعية ورفاه الجماعة.
فالعلمانية تركّز “في ذاتها” على تحقيق علاقات أخلاقية إنسانية بين فرد وآخر، أي بين أفراد المجتمع ، وطريقة عيشهم بسلام وأمن ، كما لا يقتصر الأمر بالنسبة إليها على العلاقات الإجتماعية فحسب بل يتعلق أيضاً بالمؤسسات الإجتماعية والسياسية وتنظيم شؤون الأفراد في الحياة.
لذلك أن تطبيق العلمانية بكل جوانبها في واقع السودان يجب أن يكون وأضحاً بكل المقاييس في إدارة شؤون الدولة ، وأن الفصل بين الدين والدولة شرط أساسي للبناء والتقدم ويجزم بالقوانين الإنسانية التي تضمن حق الأفراد في حرية المعتقد وعدم التدخل في الشأن الخاص للإنسان.
من جهة أخرى ترتبط العلمانية إرتباطاً وثيقاً بالمواطنة ، حيث أن المواطنة أيضاً تعتبر فكرة إجتماعية وفكرية وسياسية وقانونية ، ساهمت في تطور المجتمع الإنساني بشكل كبير بجانب الرقي بالدولة إلى المساواة والعدالة وإلى الديمقراطية وضمان حقوق وواجبات الإنسان.
وعلية ؛ فهي ذات أهمية كبيرة وهي من ضمن أسس العلمانية التي تستند إلى رفع الوعي بين مكونات المجتمع والدولة في سياق التدافع الحضاري وتعلق المواطن بوطنه ودولته وتدفعه إلى تطوير مجتمعه والدفاع عنه أمام الملمات المختلفة.
فشرط المواطنة هو الآلية الناجعة للحد من الفتن والصراعات الطائفية والعرقية والدينية والجنسية في أي مجتمع، علي قاعدة المساواة وعدم التمييز.
فالمواطنة كمبدا ومرجعية دستورية وسياسية يجب أن تستند علي قوانين الدولة العلمانية التي لا تلغي عملية التدافع والتنافس في الفضاء الإجتماعي ، بل تعمل علي ضبطه بواسطة قوانين قائمة علي إحترام التعدد والتنوع وليس علي نفيه ،ثم تسعي أيضاً إلى سن قوانين سلمية للإستفادة من هذا التنوع في تمتين قاعدة الوحدة الوطنية.

14 أبريل 2022م

مقالات ذات صلة

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x