مقالات الرأي

قراءة في دفاتر الثورة السودانية

يس حمدون

مدخل:
إنّ الثورة كمصطلح سياسي تعني الخروج عن الوضع الراهن وتغييره بإندفاع يحركه عدم الرضا أو التطلع إلى الأفضل أو حتى الغضب ، وقد وصف الفيلسوف الإغريقي أرسطو شكلين من الثورات في سياقات سياسية “التغيير الكامل من دستور لآخر ،التعديل على دستور موجود”.
من النقطة اعلاه ظلت الثورة حاضرة منذ عهد الإستعمار وما أعقبها من إستبدال الإستعمار التقليدي بإستعمار حديث جوهره قائم على وجود عملاء محليين في السلطة لتنفيذ أجندة إستعمارية في إطار إتفاق براغماتي قائم على الأخذ والعطاء الغير متوازنين ، وهكذا يمكننا وصف الحالة السودانية وحالة النخب السياسية الذين توالوا على سدة الحكم بالسودان ، وقد إتفق غالبية الكتاب والناقدين للتأريخ السياسي السوداني على وصمهم بالكمبرادورات ، لإرتباط المصطلح بالإستعمار بصورة أكثر دقة على الذين من وقفوا ضد بلدانهم بأفضلية التحالف مع المستعمر بصورة إنتهازية فاضحة هذا المسار السياسي الذي انعكس أثره على مستويات مختلفة منها:

  1. على المستوى الإجتماعي:
    هذا التأريخ الطويل من العنف السياسي أدى إلى إنهيار السياق الإجتماعي للمجتمع السوداني ، وأدى ذلك إلى تعزيز الأوضاع ما قبل الدولة على شاكلة تقسيمات عرقية ودينية تسببت فيها الدولة نفسها عبر سياسات مختلفة ، مثل التمييز بين مواطنيها ، وهو إستخدام النخب التي توالت على سدة الحكم علي تنفيذ ممارسات وسياسات المستعمر التي عُرفت بسياسة فرق تسد ، وهي عامل أساسي لتزيف الإرادة الشعبية والبقاء في الحكم ، ومن معالمها إستخدام أدوات عنف الدولة على عدد من مكونات المجتمع السوداني عبر إرتكاب مجازر مثل مجزرة عنبر جودة والإبادة الجماعية في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق ومجزرة قطار الضعين ، وآخر معالمها هو مجزرة القيادة العامة بالخرطوم ضد المعتصمين السلميين ، ونجد أن هذه الممارسات قد أدت إلى الإنفصال الإجتماعي ما بين السودانيين وغيبت عنهم إحساس الإنتماء ، ولكن ثورة ديسمبر المجيدة قد ساهمت في إحياء الوجدان المشترك رويداً رويداً.
  2. على المستوى السياسي :
    تراجع مريع لفكرة الدولة الحديثة كآخر نظام لتنظيم المجتمعات وتنظيم السلطة نفسها وتحديد حدودها ومستوياتها لتجاوز الصراعات التي تقوم على أسس دينية وعرقية وإثنية وكافة هويات المجتمعات البدائية التي كلفت البشرية كثيراً قبل إكتشاف الدولة الحديثة ، ليس هذا وحسب بل الأبعد من ذلك هزيمة قومية الدولة السودانية عبر سياسات وممارسات ترمي إلى تفكيك الدولة ، وأبرز معالمها إنفصال جنوب السودان ، والكثير من المطالبات الآنية التي تنادي بتقرير المصير في عدة مناطق سودانية ، عطفاً عن التنازل عن السيادة الوطنية في عدد من بقاع السودان والتي سوف تكلفنا الكثير في المستقبل لإعادتها إلي حظيرة الوطن.
  3. على المستوى الإقتصادي:
    ربما هو الواقع الأكثر وضوحاً للسودانيين كجزء من حياتهم اليومية الذي يعيشونها ، إذ ينظر السودانيون إلى حال دولتهم بعيون الحسرة في ظل المقدرات والموارد التي يتمتع بها السودان الذي سُمي قديماً بسلة غذاء العالم ، والأكثر خطورة أن هذه النخب ظلت ولا تزال تسرق موارد البلاد في وضح النهار ، مما قد يقود إلى فقدان السودان وتجريده من أهم موارده الإقتصادية.

⁴. دور ثورة ديسمبر:
لا شك أن ثورة ديسمبر هي إمتداد لنضالات السودانيين وعصارة مقاومتهم منذ حقب التأريخ ، والتى إتخذت أشكالاً مختلفة ومتنوعة كتنوع السودانيون ، ولا يزال تحقيق أهداف الثورة هو حلم السودانيين والوعاء الوحيد الذي يجمعهم ويجمع آمالهم في بناء دولة محترمة تحترم حقهم في الحرية والسلام والعدالة والمواطنة والمساواة في ظل المحاولات المتكررة لإختطافها وإفراغها من محتواها عبر مجموعات وتشكيلات سياسية مختلفة تعمل على إنتاج وضعية مختلة أخرى أو بالأحرى سوداناً آخر ليس لكل السودانيين!.
إن قوة ثورة ديسمبر هو التمسك المستمر بالسودان الجديد من جيل يعرف مماحكات وفشل وإنتهازية نخبه السياسية ، عطفاً عن إيمانهم بالسودان لكل السودانيين ، وفوق كل هذا ، على ثورة ديسمبر الثقة بنفسها والحوار المستمر بين أطرافها لإنتاج مبادئ عامة غير قابلة للمساس أو النقاش ، كمبادئ أساسية ، أي وثيقة دستورية أو دستور دائم ، وهي المبادئ المتعلقة بالحرية والعدالة والسلام والديمقراطية والمساوأة ، وكل المبادئ التي تصون المواطنة المتساوية بين كل السودانيين وتحقق حريتهم وكرامتهم.

الخاتمة:
إن ثورة ديسمبر المجيدة هي إرادة سودانية جامعة تنادي بإعادة بناء الدولة السودانية كما إرادة الشعوب الأخرى التي فرضت إرادتها في بناء أوطانها وتتحكم الآن في مسارها ، وطال الزمن أم قصر فإن الثورة منتصرة في وحدتها وتماسكها وتمسكها بالسودان لكل السودانيين ، ولا يتأتي ذلك إلا عبر إستمرارها في النضال السلمى وإستحداث وسائل وآليات جديدة للمقاومة جنباً إلى جنب مع الوسائل المجربة.

20 فبراير 2022م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى