مقالات الرأي

قراءة ومستخلص في كتاب التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول، للكاتب الفرنسي (بيير بورديو)

بقلم : عمار إسماعيل (فلسفة )

يقوم عالم الإجتماع بيير بورديو في كتابه «التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول بقراءة لاذعة ولاسعة للتلفزيون ، هذه الآلة الجهنمية التي دخلت كلّ بيت وقامت بتشكيل مزيّف لرأي عام محكوم بما يرى ، لذا يسعى إلى تفكيك هذه الآلة وتبيان الإيديولوجيات الخفية المتوارية في تفاصيلها العادية، والبسيطة. هذا البسيط الذي لا يثير الإنتباه ينطوي على خبث دفين يتسرب بمكر إلى أذهان المشاهدين على أساس أنه خبر من الأخبار المتفرقة طوراً أو حدث من الأحداث العادية طوراً آخر، أو حتّى يتبدى كمجرد لعبة رياضية ولكن بروح تجارية خفية. فلا شيء يخضع لمزاج الصدفة في الزمن التلفزيوني المحسوب بالثواني.
يعتبر بيير بورديو من أهم المفكرين الفرنسيين الذين وضعوا بصمتهم الفكرية و أثّروا بشكل كبير على الحركات الإجتماعية و السياسية التي شهدها القرن العشرين ، دائماً يهتف ضد العولمة و مراكزها و إنتقد بكل جرأة كل من عارض فكره في فرنسا .
و بورديو هو آخر المفكرين الكبار الذين تركوا بصماتهم الفكرية، وأثّروا بشكل عملي على الحركات الإجتماعية والسياسية التي شهدها النصف الثاني من القرن العشرين. كذلك يعتبر أحد أهم المنظرين الذين تُعدّ أعمالهم أدوات للنضال الفكري والنظري فيما يعرف الأن بحركة العولمة البديلة.
 بدايةً إعتبر بورديو أن التلفاز في فرنسا مكاناً يستعرض الصحفيين فيه أنفسهم  و أن شاشته ترغم كل من يظهر عليها بأن يقدم تنازلات ، و تجبره أن يكون  أداةً في يدها , لأنها تفرض على المدعوين للظهور عليها قيوداً صارمة ، تحديداً على الزمن المفترض لخطابهم ,  كما و تفرض قيوداً أخرى على مقدمي البرامج  الذين تفاعلوا مع الرقابة المفروضة عليهم و أصبحوا يمارسون ذات الدور على كل من يستضيفونه إلى برامجهم ، بعد أن خلقت لديهم رقابة ذاتية على أنفسهم  و تجبرهم على الخضوع للأعراف السياسية ربما بشكل غير واعي و بدون الحاجة إلى تنبيههم ، حتى  أصبح التلفاز أداةً هائلةً للحفاظ على النظام الرمزي .
ينطلق الكاتب من جملة أفكار منها خطورة التلفزيون على الإنتاج الثقافيّ من فن و أدب و علم و فلسفة و قانون،
ويشير الكاتب إلى ناحية جوهرية في التفكير بحسب رأيه وهي أن «التفكير من حيث التعريف مخرّب» أي أن التفكير هو نقيض الأفكار الشائعة والرائجة والمتداولة التي تشبه الأماكن العامة يتلاقى حولها الجميع.
إنّ التفكير كما يقول الكاتب يعني تدمير الأفكار الشائعة أو تفكيكها أو إظهار خوائها ، وهذا لا ريب يتطلب وقتاً لا يمكن للتلفزيون أن يوفره ولهذا نرى التلفزيون يلجأ إلى المتخصصين بـ fast food الثقافي، أي الوجبات المعدّة مسبقاً ولا تحتاج إلى فترة طهي أو تحضير.
الكتاب لا يكتفي بالحديث عن التلفزيون أو أنّ التلفزيون لا يمكن له أن يكون منفصلاً إنفصالاً تامّاً عن غيره من وسائل الإعلام كالصحف المكتوبة خصوصاً. ويتكلم عن التواطؤ المضمر بين الطرفين أو المنفعة المتبادلة بينهما، فأغلب الصحف تخاطب ودّ التلفزيون عن طريق تخصيص صفحة لبرامجه وهذه وسيلة يستغلها بعض الكتاب للوصول إلى سحر الشاشة الصغيرة التي تعزز بدورها من رأسمالهم الرمزيّ .
إنَّ الكاتب يكشف خلال كتابه عبر أدوات نقدية جريئة دهاء البراءة المعلنة لبرامج تلفزيونية كثيرة ويظهر قدرة التلفزيون على أن يغيّرك وأنت لا تدري و أن يخرج من فمك كلمات و آراء تظن أنّها آراؤك وكلماتك ولكنها في العمق ليست منك. أليست ذروة الخداع التلفزيوني هي ما بدأ يتسرّب إلى الشاشة تحت اسم ضالّ ومضلّ وهو «تلفزيون الواقع» وليس له في العمق من الواقع إلا الوجه المخادع المشغول بحنكة عالية في كواليس سلطان السوق؟
و يرى بورديو أن العلاقة بين الواقع الفكري و الواقع الإعلامي علاقة تناقض لأن الأول يحتاج إلى قدر كبير من التأني و الملاحظة و الثاني يحتاج إلى السرعة و أقل دقة من الأول  , وهذا التناقض لا يعني إنعدام الصلة بينهما ، فعلى الرغم من أنَّ التلفزيون يحتاج إلى السرعة في نقل المعلومة و أنه فضاء غير لائق للتفكير المتأني  ، إلا أنه خلق فكرة المفكر السريع  و هو الذي يستضيفونه مقدمو البرامج  للتعليق على الموضوع المطروح للنقاش و يكون حاملاً لأحكام مسبقة حول هذا الموضوع ، و الجمهور يتلقى هذه الأحكام بشكل مباشر و يعتبرها وجبة ثقافية  كما هو الحال لدى ضيوف ندوات المناظرة الزائفة حسب التوصيف البورديوي  فإنه وصفهم بشركاء في اللعبة السياسية لأن كل ما يدور بينهم من جدال  متفق علية من قبل الحلقة وكلٌ منهم يحمل سيناريو معين يعبر عن وجهة نظر معادية للأخرى و قد يكونوا أصدقاء حميمين على أرض الواقع ، و برّر ذلك  بالنظرات و الإشارات و اللغة المستخدمة  خلال النقاش بينهم و الذي يديره مقدم البرنامج الغير محايد في غالب الأحيان و يدعم وجهة نظر فريق على حساب آخر ليخل في توازن النقاش ويحقق هدف القناة في التعبير عن رؤيتها .

مقالات ذات صلة

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x