منوعات

قصائد الشاعر الشهيد “عبد الوهاب لاتينوس”

توطئة:

إن هذه القصائد هي مقتطفات من أعمال الرفيق الشهيد/ عبد الوهاب محمد يوسف ، المشهور ب”عبد الوهاب لاتينوس” الذي أستشهد برصاص خفر السواحل الليبي في عرض البحر الأبيض المتوسط 2020 م.

مضي الشهيد “لاتينوس” إلى ربه تاركاً لنا هذه الأعمال الأدبية الرفيعة، التي تحكي عن روعة أديبٍ رحل باكراً في ريعان شبابه، ولكنه سيظل خالداً فينا أبداً.
نسأل الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء ويلهمنا وذويه الصبر والسلوان وحسن العزاء.


الليل يتلفّع بالسوادِ
كأرملةٍ ، فقدتْ زوجها
وهي في العقد الثالث مِن العمر!
الشوارع مقفرٌ كصحراءٍ
في ظهيرةِ قيظ!
الأضواء معتمة ،
النوافذ مغلقة ،
الحانات خالية مِن سكارى أخِر الليل
مومسات المواخير ذهبن
إلى أماكن النوم ،
بعد سهرة عمل مضنِ!


وأنتَ وحيداً بين أحضان
ظلامٍ يتكاثف!
لستَ ثملٌ بالنبيذِ
أنتَ ثملٌ بالحزنِ وضجيج الوحشة!
تشعل سيجارتكَ للمرة الثالثة
قبل أن تبتلعكَ موجة هذيان
تحدِّق في صورتكَ الباهت
المعلَّق على الحائط :
يقاسمكَ نفس المصير
وحيداً مثلكَ ، بين جدران
إطارٍ لعين!
عندما تتذكّر حبيبتكَ تلك التي غادرتكَ
مِن أجل الإلتحاق بديرِ راهباتٍ
لتمتهن عبادة الحرمان!
تشعر بوخزٍ ينخر قلبكَ
يتراءى لكَ أنكَ طُعنت في صميم
ذاتكَ ورجولتكَ!
تشعر بالمقتِ والشفقة والإزداء
مِن نفسكَ!
تفقد الرغبة في الحياة
قبل أن تلعن بصوتٍ مسموع
كل نساء الأرض!


رغم ذلك – بعد أن تشعل أخِر
سيجارة في العلبة – يشدّك الحنين
إلى الأيام الخوالي :
يصلكَ حفيفُ أنفاسٍ ولهاث
مِن سحيقِ ليالٍ مضمّخ بالحب!
تحس بطعمِ القُبل ما تزال
عالقٌ بشفاهكَ!
تحس بنبيذِ الشهوةِ
يسيلُ مِن خاصرةِ الليل!
في إناء قلبكَ الفارغ ،
يورق رغبةً في الخطيئة!


سأموت لا محالة ، غرقاً في البحر
وأنا أهربُ مِن ليلِ الوطنِ الطويلِ
الذي يأبى أن يتبدد ،
ليتركَ منفذاً لنهار طال إنتظاره

أعرف أنني أموت بمرض ما
ربما بالسل أو السرطان

سأموت وحيداً دون أمرأة
تحبني حتى
دون نهد أتوسده في آخر الليل

سأموت وحيداً بائساً
دون أحد يمسك بيدي
وأنا على حافة النهاية ، ألوح بالوداع

سأموت بمرضِ ضغطِ الدمِ
أو ربما بسرطان يهش بهجة الروح
ويبدد سكون الليل

سأموت بالحب ، وبالحرمان أيضاً
فما جدوى الحب
وأنا في المنفى تائه
لا أعرف حتى موعد بزوغ الشمس

سأموت ، لأن المنفى يستطيع
سجن كل شيء
حتى الروح لم تنجو مِن قبضته الثقيلة

سأموت ، لأنني لا أعرف عن أن أكون
حقيراً داعراً
أتملَّق الجميع ، حتى الله

سأموت ، لأنني لا أعرف كيف
أمسك الحياة مِن وسطها
في آخر الليل ،
وأغتصب منها قُبلة رغماً عنها


لا أحد في الطريق الذي لا نهاية له
حتى في مخيلةِ تائه
ضلّ طريقه في صحراء الحياة

لا أحدَ هُناك في إنتظارك
حيث مكان لن تصله أبداً

كلما أحسستَ بالتعب مِن طولِ الطريق
وبالضيقِ مِن زحمةِ اللا شيء
أتكئ على أول جدار تجده
في قرية نائية
ولا تفكّر بالغد ، فهو أبداً لن يأتي

وحيداً ستسير حتى آخر رمق
في النفس ، تأكد مِن ذلك
دع خداع نفسكَ جانباً
فلا شيء يستحق خداع النفس


ينبغي لشيء ما أن يحدث!

على الرغم مِن الصمت
الذي يخيم على كل شيء
كان ينبغي لشيء ما أن يحدث
ليخفف وطأة الحزن التي لا تحتمل

ينبغي لشيء ما أن يحدث ، فجأةً
دون أن نكلف أنفسنا عناء البحث
عن أسباب ذلك ،
رغم أننا نعرف السبب الأكيد

عندما يهبط الليل ،
ترى بوضوح ، كل شيء
الحُلم منتصب
الفوضى يعبث بكل شيء

في الليل ؛ يبدو كل شيء بسيطاً
واضحاً ، وقريب المنال كذلك
قبل أن تضربه أضواء النهار
فيبهت ويتعرى
ويُصلب على حائطٍ مطليٍّ بالأبيض والأسود


الليلة الفائتة ، كانت الريح تهدر
هابطةً نحو الأسفل
حيث الليل يغوص في سكون مريب
والبرد يطعن جِلد الأشياء

الليلة الفائتة ، كانت غريبة جداً
إذ بالقمر يشعُّ ، يتلألأ ،
يضيء سماء الكون
وهذا أمر لم أعهده منذ سنة ونيف تقريباً
وكأنه لا وجود له مِن قبل

سنة ونيف ، كنتُ بعيداً جداً
عن الضوء
وكل ما يمت للنهار بصلة
سنة ونيف ، كنتُ بعيداً جداً عن الحياة

ربما لم يكن ذلك ليُحدثَ
فرقٌ أبداً
فالضوء ليس مِن جملة الأشياء
التي تروقني

أحبذ الليل أكثر عن كل ما عداه
فهو يوفر لي هدوء الموتى
ولأنني أشبه الموتى كثيراً
به وحده سأكون قريباً مِن نفسي


لو قدِّر لي أن أحب
بجنونٍ لا متناه ،
فيما تبقى مِن عمري البائس

سأحب أمرأة لا تشبه أحد
بمشاعر تغوص بدمِ الشبقِ
بأقراط طويلة تتدلى مِن أذنيها
وزمام في الأنف كنساءِ أفريقيا

سأحبها نصف مجنونة
تطعنني ببظرها بلا شفقة
في آخر الليل ،
فأفرُّ موجوعاً إليها .

أريدها أمرأة تحبني بتسلطِ الأمازونيات
بقُبلةٍ في الفمِ ، تهزني
كوخز إبرة في الردف

لو قدِّر لي أن أحب أمرأة
سأحبها مجنونة فعلاً ،
تتوهّم بأن الجنس نداء الجسد
لا علاقة له بالروح أو الحب
أن الجنس تعميد الشهوة
ورتق جراح الليل عبر إبرة التأوّهات اللذيذة .

لستُ أعرف أفضل وقت للحب
كما للبكاء أيضاً ،
رغم أن كل الأوقات تصلح للبكاء
حتى ونحن على سريرِ الحب
نصلي لإله الشهوة .

فالحب شيء كالبحر
لا نعرف متى يهيج
فيلطم الموج صخور الروح .

الحب كالدم لا نعرف متى يفور
فتصرخ الأوردة تحت سريانه
فننزع نحو وحل الخطيئة .

الحب شيء كالريح لا نعرف متى تثور
فتزيح التنانير الضيقة
التي تحزم الأفخاذ الكانزة .

صِدقاً؛ لا شيء يسوق إلى الحب
غير طعنة ما بعد منتصف الليل
حين يغوص البرد في الجِلد والعظام
فتطفق الروح في صراخٍ مهول .


باردٌ كالثلج!

لا بأس أن لا تتعرَّف على نفسكَ
إلا في الظل ،
حين ترى صورتكَ الشاحبة
تقترب منكَ على المرآة .

لا بأس أن تكون آخر مَن يعرف
بأن الحياة هي محض عبث ،
لا تقود إلى شيء
وأن الخراب هو الأمر الوحيد المؤكد فيها .

كما لا بأس أن تكون غير مبال بأي شيء
في بعض الأحيان ،
ولا حتى نفسكَ ،
بارد كالثلج ، غير مكترث كجثة هامدة .

لا بأس أن تشعر بأنكَ غير مؤهل
لأن تحب أحد ،
أو أن لا أحد يروقكَ
بما يكفي ليجبركَ على حبه
رغماً عنكَ .

كما لا بأس أن تحس بأنكَ فاشل
لا تصلح إلى شيء ،
وأنكَ أصغر مِن نملة تائهة
في صحراءِ الليل .

صِدقاً ؛ لا بأس أن تسير ، حين يجيء الليل ،
وحيداً ،
لكن ليس نحو الأمام ،
ولا حتى نحو الخلف الذي لن تصله أبداً ،
وإنما نحو اللا إتجاه ،
حيث لا تصل إلى شيء ، إلاكَ .


هواجس!

وحيداً أجدني ، بلا توقف
أركض في صحراء الليل

وحيداً أحاول ترويض الوقت
الذي يسحل عظام قلبي

أهجس أن أتوقف يوماً
عن النبض ،
بعدما يجف دم القلب
يذوي الروح تحت سياط الوحدة
وتتكلس عِظام الجسد!

أخاف أن أصير يوماً
خراباً لا يصلح إلى أي شيء
أن أصير جسداً خاوياً
يجرُّ خراب العالم
أن أصير روحاً تغوص في وحلِ
الحزنِ حتى العنق!

أخاف أن أصير يوماً
متفحماً مثل جسدٍ قهرته النار
أن أصير عربةً أجرُّ هزائمي
التي ، أبداً ، لن تنتهي!

أخاف أن أصير يوماً
منكسراً مثل غصن شجرة
صرعته الريح
أو مثل جندي خذلته المعركة!

أخاف أن أصير يوماً
بلا طريق أسير عليه
فأظل تائهاً في صحراء الخراب
يقتات الفراغ على مائدة روحي!


أفعل كل شيء ،
كل ما يسوقكَ ، بصورة أكيدة ،
إلى الجنون

لا يهم ما تصل إليه ،
فقط أفعل ، قم بذلك ، حباً في التحدي ،
ونكاية في لعبةِ العبث
التي أبداً لن تنتهي

لا بأس ببعض الجنون
فهو ليس أمراً سيئاً ،
إذ لا يقود إلى شيء سوى معانقة البراءة
والشرب مِن كأسِ الله

وحده الجنون ، سيأخذكَ بعيداً ، بعيداً جداً
عن وحلِ الظلام الكثيف
إلى نافذةِ الضوء ، لترتشفَ النهار

لا بأس أن تنتصر للحماقة
التي قد تسوق في بعض الأحيان
إلى رصيفِ المعجزات

كما لا بأس بنبيذِ اليأس
الذي يُبطل مفعول الموت ،
والذي دونه ما كان أبداً للحياة أن تُعاش

أفعل كل شيء ، أحياناً بصمت ،
في لحظة واحدة ،
لتجدَ نفسكَ تقضم نهد المعنى .


وحدكَ سوف تدرك!

مَن يقول لكَ
أنكَ وحدكَ هُناك تجرّ
ثقل الخراب

وحدكَ تدخن سجائر بؤسكَ
وتطعن في جماليةِ الوجود

وحدكَ تلعن كل شيء
دون أن تأبه لأحد!

مَن يقول لكَ
أنكَ وحدكَ مَن إنطلى
عليه وَهم الحياة

وحدكَ تمزق قلبكَ
بعد كل فاجعة تنزل على جثةِ الحياة
باترةً كسيوفِ عصر الدم الأول

وحدكَ تظن بأن الحب وحده
يمكنه هزم سيوف الحرب المسنونة

وحدكَ لم تزل تؤمن
بجدوى الكتابة ،
وأن بالشِّعر وحده يمكن للحياة أن تُعاش!

لمرة وحيدة سوف تدرك
أنكَ وحدكَ مَن تركض وراء الشمس
وحدكَ مَن تحاول خياطة الظل بالضوء

صِدقاً؛ سوف تدرك
أنكَ وحدكَ مَن تكنس البكاء بالعويل

سوف تدرك ، متأخراً جداً
وحدكَ مَن خُدِعَ!


كل ما تعرفه ، للحظة ، يثب بعيداً
ينسل مِن رحمِ الذاكرة
المعذب بماءِ الحزنِ الدافق

كل ما تمسكه ، للحظة ، يداك
يذيب كذئبقٍ ،
أو يتبخّر دفعةً واحدة
تحت حرارة تنبعث مِن جحيمٍ آخر
شبع منه خراف الرب

كل ما يراه ، للحظة ، عيناك
يفرُّ موجوعاً نحو العدم
أو يختبئ خلف دغل ظلام ، خوفاً
مِن نظراتِ الشمسِ

كل ما تعرفه ، سابقاً ، والآن ؛
سيقصف هدوء قلبك
إلى غابةِ القلق

كل ما تعرفه ، سابقاً ، والآن ؛
سيتنكر لكَ بفظاظةٍ
ويخز سهم الشك جِلد يقينكَ

كل ما تعرفه ، للحظة واحدة
سيتلاشى ، يفرُّ
دون أن تجد ما يحول أو يفسِّر ذلك

تتمنَّى لو كان بوسعكَ الجنوح
إلى البداهةِ القائلة :
” دعكَ عن كل شيء ، فكل شيء
يكمن في التفاصيل “

عبثاً؛ ذلك ليس كل ما في الأمر
طالما الفراغ هو فقط ما تبقى
فلا أحد يهتم بالتفاصيل!


ليس لديّ وقت للإنتظار
سواء كان الوقت يركض بجنونٍ
نحو حتفه ،
أو يتجمّد في لحظةِ حزنٍ؛
لا يهم ذلك أبداً!

ميتٌ أنا في نهايةِ الأمر ،
بالكتابةِ أو بالحب ،
أو حتى بالحرمان في أحيانٍ كثيرةٍ !

مَن يقول لتلك المرأة التي
تتريث في كلِّ شيء حتى في الحب ،
التي تؤجل قطف كروم السعادة
لوقتٍ آخر ربما لا يأتي أبداً ؛

مَن يقول لها ؛ أنني أحتضر
أحتضر مرةً بفعلِ الحبِّ
مرةً بنبيذِ الكتابةِ ،
وبلهفةِ الإنتظار مرةً أخرى!

مَن يقول لها ؛
دع النظر في المرآة المنتصبة
على الحائط في آخر الليل
دع هرش نهديك الناتئين
كلما لسعتك شوكة الشهوة ،
دع كل شيء
وأهرب إليه في الحال!

في الوحدة ، ليست ثمة هناك ما يُغري
ليست ثمة هناك ما يراقص الروح
أو يفكُّ سلاسل الجسد ليخفق بعيداً جداً!

فقط ، ملتحفاً بدثارِ الحب ، تعال
دعك عن إرتداء الأحمر حتى!


لا شيء سيمطر الآن تحت
سماء الليل ،
غير ريح تعزف موسيقى الحزن
التي تُحبل الوجود!

أحياناً تتمنّى لو تكون وحيداً
وسط هذا الفراغ الذي لا ينتهي
تحدِّق إلى كل شيء
مِن أعلى ومِن أسفل ، كأنكَ تراه لأول مرة!

تحدِّق في الغيوم التي تخاصر
جسد السماء ،
تستمع إلى صوت المطر
وهو يجلد أسطح المباني!

تتمنّى لو تكون وحيداً
تستمع إلى نشيج الموتى
والحياة التي تئن تحت ثقل الخراب!

تتمنّى لو تكون وحيداً
بلا مبالاة تشعل غليونكَ
لتنفخَ دخانه في وجه الحياة
نكاية في الشر!

تتمنّى لو تكون وحيداً
تتكئ على نافذةِ الصمت
ترشق الشوارع المقفرة بنظرات إستهزاء!


تخاف أن تعيش وحيداً

إليّ أنا وحدي في منفاي الذي يأبى أن يفارقني!

لا تريد أن تكون وحيداً
تحصد برد الليالي الذي ينخر العِظام
ويجفف زهرات الروح!

تخاف أن تعيش وحيداً ،
دون أمرأة قد أحبتكَ يوماً ؛

أو ربما هي لم تحبكَ أبداً ،
فقط منحتكَ جسدها ذات ليلة
تنوء تحت صفعات المطر!

أو ربما هي لم تمنحكَ جسدها ،
فقط أطعمتكَ ثدييها
بين زقاق قفر مِن المارة!

أو ربما هي لم تطعمكَ ثدييها أيضاً ،
وإنما أنتَ مَن أغتصب منها قُبلةً
فوق مقاعد حديقة تكتظ بالعُشاق!

ولكن ما معنى أن تحبكَ أمرأة ؟
غير إهراق دم طازج
وإنصباب عرق
وسلب سكون الليل!

ما معنى أن تحبكَ أمرأة ؟
غير تعب يقصف العظام
غير رعشة تسكن الأوردة
وطفل لا يعنى سوى زيادة بؤس العالم!

ما معنى أن تحتضن أمرأة
أو أن تحتضنكَ هي فوق سرير يئن
أو أن تتأبط ذراعك اليسرى
على الرصيف وهي تضحك
بسبب أو بلا سبب أيضاً!

ورغم كل هذا التوجّس ،
ها أنتَ وحيداً ، لا أحد يقرع بابكَ
لينزع عنك معطف الوحدة
الذي تتدثر به!

وحيداً أنتَ ، تصغي إلى موسيقى صمت
تشبه قُداس الأموات
دون أن ترفع بصركَ عن السقفِ الباهت!

وحيداً أنتَ ، تحترق بأعواد ثقاب الحزن
الحزن الذي شبع مِن روحكَ
بعد أن غدتْ وجبته الوحيدة!


حين تتفتح في الروح
زهرة الحزن ، لا أبال بشيء ؛
كظلٍّ تطعنه سهام الضوء
فتفرّ موجوعاً نحو الشمس!

كشظايا مرآة هشمتها يد أمرأة
لحظة غضب ،
مِن رجل خانها مع صبية خرقاء
لم تعرف بعد ، معنى الطمث!

بحنقٍ ، ولا مبالاة أيضاً
أحدق إلى ظلي المنعكس على مرآة الليل
والذي يشبه منطاد مثقوب
على بعد مسافة عن الأرض!

كثيراً ما ، ولسبب أعرفه جيداً
أحاول التخلّص مِن شرنقةِ العالم
التي تخنقني ،
لكأنها تريد أن تأخذ روحي رهينةً عندها!

لستُ أريد أن أجرُّ عربة الكون الخربة
المحمّلة بالجثثِ
ومعاطفَ ملوك كتبوا التأريخ
بدمٍ أبيضٍ!

بل أريد أن أصلب الليل
على شجرةِ النهار
والنهار على شجرةِ الليل ،
ليكون الضوء أكثر سطوعاً
والعتمة أكثر حُلكةً!

أريد أن أثقب بالونة الريح
بسهمِ الأشرعةِ الراسيةِ
على البحرِ الراكد ،
فتتيه السفن في عرضِ البحر!

أريد أن أقشّر جِلد التأريخ
بمنجلِ الشِّعرِ ،
أن أحكه ، حتى ينبجس دماً أحمراً
لنكتب به سَطراً جديداً ،
أقلّ غموضاً عن لونِ البراءةِ!

أريد أن أتسلل ، خِلسةً ، إلى غرفةِ اللغة
أشعل النار فيها ،
فتحترقَ ملابسها البرّاقة
لتخرجَ إلينا ، عاريةً ، في وضحِ النهارِ!

صِدقاً ، أنني في قطيعة مع كل شيء
حتى الحياة أيضاً ؛
لذا لا خيار لي ،
غير أن أصفع كل شيء
لأمضي نحو الأمام أو الخلف ؛
ذلك لا يهم ، ما يهم هو أن أمضي فحسب!


في زمن خراب الروح
وفوضى العقل ؛
لا أعرف شيءً عن الثورة
إذ لم تثقب رصاصةً صدري
أو أختنق بالغاز المسيل للدموع
في ظهيرةِ قيظ!

صِدقاً ؛ لا أعرف شيءً عن الثورة
إذ لم يسيل دمي في شوارعها
حتى ترتوي أزهار الصبّار
التي تزيّن أرصفة الطرقات!

كما لا أعرف شيءً عن الوطن
إذ لم أحس يوماً بنهده يطعن صدري
في إحتضانِ أمٍّ لطفلها
أو يثملني رحيق حنانه!

لا أعرف شيءً عن الوطن
إذ لم أرضع مِن حليب ثدييه
ولم أجد سبيلي نحو فم الشمس!

بئساً ؛ لا أعرف شيءً عن الوطن
فهو لم يكن لي جداراً
يسندني في لحظاتِ الإنكسار
أو أجنحة تحلق بي في الأعالِ!

ها أنذا اليتيم دائماً وأبداً
شريدٌ أنا في غابةِ المنافي
أجرُّ عربة الخيبة وراء ظهري!

وُلِدتُ بصليب على ظهري
فمتى يكون خلاصي
أو تأتني المجدلية لتهبني قُبلة الموت
أو تسكب نبيذاً على جسدي المتعب ؟

يا الله ؛ ها أنذا في المنافي
لا أملك وطناً ولا الله أيضاً
إذن ، فمَن يُسكت صراخ الطفل داخلي!


أن تظل وحيدة!

حين ينتصف الليل ،
مِن أقاصي العالم البعيدة ؛
حيث الصقيع تقصف العِظام ،
فتصرخ الروح ملدوغةً بالوحدة القاتلة ؛

أنظر إلى أمرأةٍ تسير
عكس عقارب الحب ،
في عراءٍ بائسٍ موحش!

تحمل قلبها في مزهريةِ الليل
وتسند جسدها على جدارِ
الحزن النبيل!

لا تريد أن تبوح أو أن تصرخ
ولا أن تمدّ يدها لأحد ،
فقط تتعرى مِن ثيابها
وتحرق جسدها بدموعِ الحزن!

تنكفئ على نفسها ،
لا تريد أن تغوص في وحلِ الحبِ
مع رجل لا يحترم جسدها ؛

هي لا تريد أن تؤكل على عجلٍ
قبل أن تنضج روحها مع توابل الحب
وقبل أن ينفلت جسدها
مِن شرنقةِ الخطيئة ، محلقاً في سماءِ الشبقِ!

تريد أن تظل وحيدة ، ككمانٍ
لا تلوذ سوى إلى أوتارها!


القصيدة عناق طويل!

كل الذين الأن هُنا ،
على حافةِ الورقة
يبتلعون القصيدة دفعةً واحدة ؛

تريثوا قليلاً أيها الحمقى
فالقصيدة لا تؤكل بعجالةِ
الموائد اللذيذة!

القصيدة لا تؤكل بعجالةِ
دلق أكواب البيرة
في حاناتِ السُكرِ الرخيصة!

القصيدةُ عناقٌ طويلٌ
لذا تريثوا قليلاً
حتى تبتلَّ أوردة القلب
يمتزج الدم
وتلتصق الضلوع!

تريثوا قليلاً ،
حتى تهطلَ الدموع
بغزارةِ مطر بعد منتصف الليل
وتتكوّر الغصات في حنجرة الله
خوفاً مِن دمِ الكلمة!

تريثوا قليلاً ،
حتى تورقَ رغبة البوح
في جسدِ الكلمة
حتى يتقشّرَ جلد اللغة
فيبزغ المعنى طازجاً للأكل!


الليل العابس!

آه ؛ يا لها مِن ليلةٍ عذراء
لا تتمنّى فيها ،
سوى الموت بين أحضان عاهرة
تذيبكَ في نبيذِ الشهوة
المعتصرة مِن كرومِ إيروس!
أن تموت وطعم القُبل
ما تزال عالقٌ بشفاهكَ!
وضجيج آهةٍ تسبح في
وريدكَ ، موسيقى هادئة!


قَبل أن تخطو خطوتكَ الأخيرة
نحو سحيقِ العدم!
قَبل أن تصير فراغاً يستوي
في جسد الوجود!
تلفّع بجسدِ أمرأةٍ
وافرة النهدين
تغسل عنكَ ما عَلِق بكَ
مِن أدرانِ الحزنِ!
بنهدٍ تمسح عنكَ غبار الشيب
الطافق في التمدد ،
كحزنكَ النبيل!
بلمسةِ حنوٍّ ترتّق روحكَ
المثقوب برصاصِ الفجيعة!


( ها أنتَ ذا لستَ قديساً لتحنط نفسكَ في نهاية
تعيسة خالياً مِن الخطيئة!
أنصاع طوع رغبتكَ كأخِر فعلٌ لكَ على ضفافِ
الحياة
أرتشف مِن نبيذِ الجسد حتى الثمالة!
مارس ضلالكَ السعيد ، لا تكترث لما وراء الأفق
ربما لا وجود لذاك التهويم اللعين! )


في هذا الليل العابس ، المكفهر كوجهِ ميتٍ دثرته
غبار الصحراء ، ليس هناك أفضل مِن أن تهمسكَ
أنثى ، وأنتَ في طريقكَ إلى المتجر مِن أجل
شراء رصيد ، كي تقطّع به أوقات الليل الراكد
كمياهٍ آسنٍ : أن تعال إليّ بعد إنتصاف الليل
أنني أشتاقكَ بشدة ، بي لوعة في أن أضمكَ
إليّ كنهدي الملتاث بالشهوة!
بي رغبة في أن أمتصّ رحيق روحكَ لأمتلئ
بكَ ، لأرتوي منكَ حدّ الثمالة!
تعال أسكب حزنكَ في سديم جسدي ،
أذرف بؤسكَ في لفيف روحي!
تعال إليّ تحت أوتار الليل الهادئة ،
فلا شيء يستحق العناء أكثر مِن ممارسة الحبّ!
أريدكَ أن تحيل غرفتي إلى ملهى ليلي ،
نكرع فيها أكواس الحبّ ، ونشرع في الرقص
على أنغام الجسد الطافق في التأوّه والشهيق!


الأمكنة الهاربة!

في زحمة الأمكنة الهاربة

مِن مخالبِ البؤس ،

وإلتواءات الزمن الراكد كمياهٍ أسن!

حيث الحياة جثة مشنوقة

بحبلِ الكرهِ!

الحياة التي يتقشر جلدها

كأفعى ، في دغل إستوائي!

لا شيءٌ سوى الخراب

سوى الموت العبثي

سوى حياة بطعمِ الموت!



سأكون صخرةً تتدحرج

في خاصرةِ أرضٍ جرداء!

سأكون شجرةً بلا ساق

تتدلي أغصانها فوق كوة جحيم!

سأكون راهباً يكتظ بالرغبة المجنونة

على تخومِ براري الرب الموحشة!

سأكون عاهرةً بصدرٍ متهدّل

يبصق الرجال على جسدها!

سأكون غيمةً لا تمطر

تتسمّر في رحمِ السماء!

سأكون أرملةً تشهق

خلف ستار العتمة!

سأكون ضوءً باهتاً يتلوّى

بين فكيْ الحُلكة!

سأكون لا شيء ،

سأكون عدماً يتمدّد في جسد الوجود!


بوجهٍ شاحبٍ مكفهر

كبيت عناكب خربة!

بيدٍ معروقة نحيلة

كساقِ شجرةٍ منزوعة اللحاء!

بقلبٍ واهن

بروحٍ شائخ

بجسدٍ مزحوم بالخراب ؛

بخطواتٍ وئيدة وجلة

أخطو صوب حتفي!


تحدّق عبر زجاج النافذة!

عند زاوية الغرفة تجلس بلامبالاة ، تحس بوخز

الوحشة ينخر قلبكَ الفارغ مِن كل شيء

مشدوهاً مشوش التفكير ، تحدق عبر زجاج النافذة

في وقت كانت السماء تذرف الدمع خفيفاً

فتاةٌ جميلة ، أهيف الخصر ، بصدرٍ ناتئة ، تتمايل

في خطوها إغراءً ، تخاطبكَ بلغةِ الإشارة ،

أراكَ تحدق فيّ يا صاح ، لا بأس يمكننا أن نحظى

ببعض الخصوصية ، سأتِ إليكَ في الحال!

لستُ أقصد ذلك ، لكن لا بأس ، لستُ أحمق

بما يكفي لأرفض مثل هكذا دعوة نبيلة!

تعلو ثغركَ غبطةً مجنونة ، تنهض على أهبّة السرعة

ترتب الأسرِّة ، الملاءات ، الألحفة ، والوسادات!

تشعل بخور النّد وشمعدانات الحبّ ،

تشغل موسيقى هادئة ، تسبح فيه الغرفة

ترصّ زجاجات البيرة ، كأسين ، وباقة ورد أحمر!

تحس نفسكَ منغمسٌ في بحر الحبّ

مبللٌ بالشهوة الطافق في الهطول!

قبل أن تستيقظ ، لتجدَ نفسكَ في حُلم!

(المجد والخلود للرفيق الشهيد “لاتينوس” وكل شهداء الثورات السودانية على إمتداد الوطن)

مقالات ذات صلة

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
3 تعليقات
Newest
Oldest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
Mudather abdallh mouse
Mudather abdallh mouse
1 سنة

له الرحمه والمغفرة ذهبت عن دنيانا وتركت لنا كلمات يحفر في الوجدان

Capital
Capital
1 سنة

تذهب العقول الناجحة ونفضل نحن التفاهة، الرحمة والمغفرة لكل العقول الذى رحلت عن دنينا

حيدوس
حيدوس
1 سنة

له الرحمة والمغفرة

زر الذهاب إلى الأعلى
3
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x