مقالات الرأي

هل إختيار الشيخ عبد الرحمن دبكة لتلاوة مقترح استقلال السودان من داخل البرلمان كان بمثابة الرد على نتائج مؤتمر دوماية بنيالا (٤)

بقلم: الصادق علي حسن المحامي

إستقلال السودان
وقائع تاريخية مخفية

مواجهة التاريخ في مواجهة أنفسنا(Facing our history facing our selfies ).
من اهم الدروس التي استفدت منها في زيارتي الأولى للولايات المتحدة الأمريكية ضمن برنامج الزوار الدوليين للولايات المتحدة هذا البرنامج الذي تأسس في عام ١٩٤٠م ليتيح لزوار الولايات المتحدة الأمريكية من كل انحاء العالم التعرف على المجتمع الأمريكي والمؤسسات الأمريكية والتجارب التي مرت بها البلاد منذ تأسيسها كانت دروس مواجهة التاريخ، ولا ازال اذكر بانني تلقيت إتصالا من السفارة الامريكية بالخرطوم وقتذاك في ٢٠٠٧م لملء أرنيك بالأماكن التي يرغب الزائر في زيارتها والمؤسسات والمعالم التي يرغب في التعرف عليها ثم علمت لاحقا بالزوار الآخرين الذين تم اختيارهم في ذلك العام لزيارة الولايات المتحدة وهم د مرتضى الغالي د يس حسن بشير د شمس الدين ضو البيت د زهير السراج وذلك للوقوف على تجارب الولايات المتحدة وكان البرنامج الخاص بالسودان قد توقف لفترة انقطاع استمرت عدة سنوات عقب إستيلاء نظام البشير الترابي على حكم السودان ، لقد كان من ضمن اهتماماتنا جميعا زيارة المناطق التي شهدت بزوغ حركة الحقوق المدنية بالولايات المتحدة لذلك كان من ضمن برنامج زيارتنا زيارة مدينة ممفيس والتي سميت على المدينة المصرية القديمة وممفيس هي بلدة اهم رواد حركة الحقوق المدنية بالولايات المتحدة مارتن لوثر كنج وفي ممفيس زرنا إحدى المدارس وحضرنا اهم الدروس وكانت عن التلمذة في دروس مواجهة التاريخ على يد المعلم روبرت والذي كان يُدرس الأطفال الصغار ما بين السابعة والرابعة عشرة سنة دروس مواجهة التاريخ الأمريكي (مواجهة تاريخنا ،مواجهة صورنا الشخصية) وكان التلاميذ من كل الأجناس واعراق الولايات المتحدة من سود وبيض وملونين يتتلمذون حول تاريخ نشاة بلادهم والتجارب التي مرت بها قبيل وبعيد تأسيسها وعلى راسها تجربة الإسترقاق وما تبعتها من حركات التحرر والحقوق المدنية وعن كيفية الحصول على الأراضي من السكان القدامى الذين يطلق عليهم في تاريخ البلاد بالسكان الأصليين، وكيف ان السود جلبوا من مناطقهم في أفريقيا في زمن الإقطاع في حملات صيد الرقيق واتوا بهم للعمل سخرة وعبيد وكيف ظلت الولايات المتحدة لسنوات تمارس الرق حتى حرر الرئيس ابراهام لينكولن شعب الدولة الأرقاء ووحد البلاد، وحول ممارسة الحقوق السياسية بالولايات المتحدة وحتى اوائل الستينات لم يكن للسود الذين انتفت عنهم صفة العبودية وقد تحرروا منها ومن تبعاتها الحق في التصويت في الإنتخابات العامة بالبلاد بل لم تكن للمراة الأمريكية البيضاء ايضا حق التصويت، ومن اهداف دروس مواجهة التاريخ كما علمنا من المعلم روبرت التصالح مع الذات وتنشيئة الاطفال على الحقائق وإزالة المرارات بالنظر إلى التجارب السابقة بالبلاد بما فيها من مرارات مظالم تاريخية لتنهض الأجيال المتعاقبة بالولايات المتحدة سوية ومتعافية ومتصالحة مع ذاتها كما ولا ازال اذكر في نيويورك وبالقرب من الفندق الذي نقيم فيه لاحظت إمرأة بيضاء مسنة تقف في الشارع العام وتؤشر لعربة تاكسي وكل عربة تاكسي تتوقف امامها لا تركبها وقلت لمرافقي ظللت اراقب هذه المرأة المسنة التي تؤشر لعربات التاكسي وحينما تتوقف امامها تنظر للسائق ثم لا تركبها وينصرف وتتفادى السود فقال لي هذه المراة المسنة البيضاء متأثرة بحقبة الفصل العنصري وان معظم سواقي التاكسي من السود والملونين وستنتظهر هكذا حتى ياتيها سائقا من البيض وبالفعل أتت سيارة تاكسي يقودها احد البيض فاعتلتها، الولايات المتحدة مرت وتأسست على تجارب مرارات إنسانية قاسية وتعافت منها من خلال عدة تجارب قد تكون منها دروس مواجهة التاريخ التي اقرب ما تكون إلى الحقيقة والمصالحة المجتمعية مع الذات بصورة تلقائية ومدروسة لتحقق اغراضها وقد كان وقد وصل اوباما لدورتين لرئاسة الولايات الأمريكية والتي غالبية سكانها من البيض ، الآباء المؤسسون للولايات المتحدة ادركوا مبكرا حقائق هي من البديهيات ومهما اختلف الأنسان في اصله القريب يظل اصل البشرية واحد وان التمازج البشري ينتج ويجدد حياة الإنسان وصحته وعقله وعطائه وفتحوا بلادهم بصورة منظمة للهجرات البشرية من كل انحاء العالم لتحافظ البلاد على تفوقها في كل مجالات الحياة وهذا الفهم العميق هو المفقود بالسودان الذي لا يزال بقيود المفاهيم البالية، في الولايات المتحدة حصل الأميش على حكم من المحكمة العليا يكفل للأميش عدم إرسال أبنائهم للمدارس ورأت المحكمة العليا ان اعتقاد الأميش يجب أن يحترم وفقا للدستور الأمريكي الذي كفل حرية الأعتقاد وصار الأميش الذين تعايشوا مع الآخرين في المجتمعات الأمريكية المتعددة يدركون لوحدهم أهمية التعليم كما صار تمسكهم بتقاليدهم واعرافهم إضافة للتنوع والتعدد الثقافي بالولايات المتحدة بخلاف الحال في السودان الذي اعتمد آحادية الهوية الرسمية وظهرت المفارقات بين الهوية الرسمية للدولة وهويات الشعوب السودانية ثم ظهرت قضايا التهميش السياسي ورفع السلاح .
تجارب شبيهة وإنكار للحقائق :
تكاد تكون التجربة السودانية شبيهة للتجربة الأمريكية من عدة جوانب وقد وفد إلى سكان السودان القدامى الذين يطلق عليهم في التاريخ القديم النوبة في الشمال ومناطق أخرى هجرت من مناطق عدة وفي ظروف مختلفة مثلما صحب حملة عبد الله بن أبي السرح والهجرات من الجزيرة العربية والأغريق والأتراك والمصريين والشوام والأقباط ومن شرق البلاد الحبش ومن غربها الشنقيط ومن غرب أفريقيا كما وكانت بلاد السودان في السابق من أكبر مصادر ومحطات وأسواق تجارة الرق خاصة في عهدي التركية والحكم الثنائي الإنجليزي المصري وكان الرق سلعة لذلك النظرة الموضوعية السليمة لإدارة التنوع وعلاج خطاب الكراهية الموروث والناتج من عدة أسباب منها ممارسة تجارة الرق في ظرفها الزماني وفي مرحلة من مراحل ممارسة شعوب العالم للرق ومثلما كان الرق تجارة في ظل التركية هنالك من تم وصفه بارض السودان بأنه من كبار تجار الرقيق في العالم في ذلك الوقت وقد أسس الزبير باشا رحمة زرائب لتجارة الرقيق في منطقة بحر الغزال واُطلق على زرائبه (ديم زبير) وكون لنفسه جيشا منهم يُسمون بالبازنقر ثم صارت له طموحات في الحكم ليستقل بتأسيس مملكة ولكن انتهت مغامراته بنفيه إلى القاهرة. لقد كانت البلاد عقب استقلالها تحتاج إلى الحقيقة والتعافي المجتمعي وفي تأسيس مشروع الدولة السودانية من خلال إقرار سياسات تضمن التعافي وادارتها بمفاهيم استراتيجية وقد كانت كل الظروف مواتية ولكن ذلك ما لم يحدث، الباحث في التاريخ يجد في حقبة من الحقب ،هنالك من أطلق على حقبة الزبير في بحر الغزال بانه كون جيشا إسلاميا وسعى لتأسيس حكما إسلاميا في بحر الغزال بخلاف الحقائق الثابتة ،واستمرت الأخطاء الجسيمة المتكررة حتى انفصل جنوب السودان والآن تغلبت الهويات القبلية والجهوية على هوية الدولة الرسمية نفسها وتعمقت مطالب الهويات في جنوب كردفان والنيل الأزرق وبرزت مطالب الهويات في الشرق مطالبة علنا بتقرير المصير والمؤسف حقا ان من يتنازعون على إدارة الدولة من المكونين المدني والعسكري لا يدركان بأن المطلوب الآن قبل أي وقت مضى إستعادة الدولة في اذهان مواطنيها اولا قبل البحث في محاصصة تقسيم غنائم السلطة والثروة ولكن لكل أهدافه وراؤه. وأصحاب تجارب متواضعة من قوى الحرية والتغيير الموقعة على الإطاري يعتقدون ان مجرد الإبتعاد الصوري للعسكر من واجهة السلطة كافيا وان الإنتخابات التي ستعدها بمفاهيمها القاصرة ستؤطر لها ولا يدركون مآلات الفوضى الشاملة القادمة .
الأحساس بالفوارق الطبقية من مكامن أزمات الشخصية السودانية :
الدكتور عمر شريكان من أكثر الذين كتبوا عن التجارب السودانية وعن ممارسات الإسترقاق وتجاربها المريرة والإحساس بالغبن المتراكم الذي شكل جروح غائرة لأجيال متعاقبة من أبناء السودان من ذوي البشرة السوداء وكتب شريكان في مقاله بالرقم (٦- ١٠) عن جيل الإستقلال البدايات والمآلات ما ناخذ منه الآتي (ذهب بعض المحللين السياسيين قولا بأن المنهج الدراسي الذي انتهجه الإستعمار البريطاني المصري في السودان (١٨٩٨- ١٩٥٦) وتتلمذ عليه الخريجون الأوائل كان يهدف في المقام الأول إلى استنساخ كتبة يعملون في الخدمة العامة التي لم تكن فرصها متوفرة إلا في المدن الكبيرة لذلك ارتبط هؤلاء الخريجون بالعاصمة وبعض مدن السودان مما جعلهم يلبثون فيها احقابا بعيدا عن الريف السوداني وأهله ومصالحهم المعيشية والخدمة الإجتماعية والثقافية وما ان تشربوا بالايدلوجيات العروبية والاسلاموية حتى نمت لديهم النظرة الإستعلائية التي لا تكاد تخلو من الإحتقار والعنصرية لإنسان الريف وشرعوا يوصفونهم بالبدائية والجهل والوثنية وأسوأ النعوت بالعبيد لعل ربما كان ذلك من نتائج التعليم الإستعلائي ،كان الإداري البريطاني روبن كايرو جاريت (١٨٩٩ ١٩٧٤) قد قام قبيل تقاعده عن العمل مديرا لمصلحة المخازن والمهمات عام ١٩٤٩م بكتابة تاريخ كرة القدم منذ اول ظهور لها عام ١٩٠٧ وفي سرده لذلك التاريخ في ٢٦٠ صفحة حكى جاريت عن حادثة وقعت في عام ١٩٢٨م مفادها انه كانت تقام سنويا مباريات بين فرق المصالح الحكومية المختلفة وفي ذلك العام (رفض لاعبو إحدى الفرق وكان مكونا من خريجي كلية غردون جامعة الخرطوم حاليا) اللعب ضد فرق المصالح التي يتكون افرادها من طبقة إجتماعية متدنية وشمل هؤلاء رجال الشرطة وجنود قوة دفاع السودان (نواة القوات المسلحة حاليا) والصنايعية وعمال الأجرة وكان الكثير من هؤلاء العمال من السود إذ انهم المجموعة التي تم تجنيدهم بكثرة في الجيش والشرطة والمهن الفنية اليدوية وكتب جاريت (كانت بداية سيئة) إذ انها أثرت على العاملين في مصالح الأشغال العامة، المخازن والمهمات، السكة حديد والبواخر وشركة النور والكهرباء وبما ان فريق مصلحة الأشغال العامة الذي يلعب فيه (٨) من الصنايعية هو الفريق الذي كان قد حاز الكأس(١٠٠) فيبدو انه ليس هنالك من حل لتلك المشكلة (١٠١) ،وبعد سنة من ذلك تغلب المتعلمون الشماليون على نفورهم واشمئزازهم ولعبوا ضد السود الذين كانوا يعدونهم اقل مرتبة إجتماعية منهم) المرجع كتابات د عمر شريكان.

  • فصل الشخصية السودانية عن المصرية :
    من الأخطاء المتراكمة في التجارب السودانية عدم فصل الشخصية السودانية عن المصرية بصورة واضحة ومنذ فترة التركية بالسودان ظلت مصر الخديوية تنظر للسودان نظرة التبعية وتصر على تبعيتها للأراضي المصرية وكانت أسرة محمد علي باشا قد انصهرت في الدولة المصرية التي ظلت تستوعب كل من يحكمها وقد حكمها الفراعنة والهكسوس والبلاطمة والممالك(العبيد) والفرنسيون والعرب والعثمانيون والإنجليز وفي مقال سبق اطلعت عليه للمفكر المصري عبد الله البنا تم نشره بصحيفة المصري اليوم كتب البنا مع معناه بأن (الاقباط هم سكان مصر الأصليين ولكن ظل غالبية شعب مصر عقب الحقب المتتالية يتبعون الحاكم الذي يسود ويدينون بديانته اما الاقباط فقط ظلوا على ديانتهم وتمسكوا بهوياتهم وصاروا قلة وان اسم اجبت اصلا اقبط)، بعض كتابات المفكر المصري عبد الله البنا عن التطورات في المجتمع المصري تكشف بان مصر لديها تجاربها مع الأوضاع التي تمر بها وتساهم في تشكيل هوياتها وهذا ما يؤكد مساهمة كل التجارب في تكوين الهوية المصرية في مصر ومن اهمها تجربة محمد علي باشا مؤسس الدولة المصرية الحديثة بخلاف تجربة السودان الآحادية عند إعلان استقلال السودان .
  • السير روبرت جورج هاو (٨ أبريل ١٩٤٧- ٢٩ مارس ١٩٥٤) وأضع قانون الحكم الذاتي وتقرير المصير .
    مرت الذكرى السابعة والستون للإحتفال بإعلان استقلال السودان من داخل البرلمان في ١/ ١/ ٢٠٢٢م ولم ترد في وسائل الإعلام او في احتفالات الإستقلال مجرد ذكر لدور السير روبرت جورج هاو واضع قانون الحكم الذاتي وتقرير المصير .
    مشروع قانون الحكم الذاتي وتقرير المصير .
    كانت بريطانيا ترغب في إعلان الحكم الذاتي في السودان في اقرب فرصة ممكنة وذلك لقطع الطريق على الأطماع المصرية في السودان ووضع القاضي الإنجليزي استانلي بيكر بتكليف من الحاكم العام روبرت هاو تقريرا بما انتهت إليه وقد ارسله هاو في ٨ مايو ١٩٥٢م لحكومتي مصر وانجلترا للموافقة عليه او الرد وحدد مهلة ستة اشهر لرد الحكومتين وإلا اصبح نافذ المفعول، تقرير استانلي بيكر يؤسس لمشروع إنتخاب برلمان يتم إنتخابه من السودانيين في إنتخابات عامة حرة وبمراقبة دولية ليمارس السودانيين الحكم الذاتي لفترة محدودة ثم يقرروا مصيرهم من داخله ويؤسسون لحكم مدني ويضعون دستورهم الدائم لحكم بلاهم ، وذلك ما كانت ترفضها القاهرة والتي تتمسك بتبعية الأراضي السودانية للخديوية المصرية تحت غطاء وحدة النيل .
    الأوضاع العام قبل إقرار تقرير لجنة استانلي :
    الوثائق تُكشف بان الخلافات بين السودانيين كانت بائنة في وضع الدستور بين دعاة شعار السودان للسودانيين وعلى رأسهم الأنصار ومجموعات وحدة وادي النيل والجبهة المعادية للإستعمار وبرزت إتهامات للإمام عبد الرحمن بانه كان يسعى ليصبح ملكا على السودان كما وسعت القاهرة لتوحيد كل دعاة وحدة وادي النيل في كيان وأحد وكانت هنالك ازدواجية في نظرة أولئك للإستعمار الثنائي الإنجليزي المصري وهنالك منهم من لا يعتبرون مصر وبريطانيا على قدم المساواة في إستعمار السودان ، هذه الازدواجية كانت حاضرة حتى في ثورة ١٩٢٤م بقيادة المناضل علي عبد اللطيف والتي من مطالبها ايضا وحدة وادي النيل .

مقالات ذات صلة

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x