مقالات الرأي

الطريق نحو الخروج من عنق الأزمة الوطنية (2-2)

بقلم: محمد عبد الرحمن الناير (بوتشر)

●تحدثتُ في الجزء السابق من المقال، عن جذور الأزمة الوطنية التي أقعدت بالبلاد قبل إعلان إستقلال السودان، وكيف أن هذه الأزمات المتراكمة قد استفحلت وتجذرت، وقادت إلى عدم الإستقرار السياسي، ونشوب صراعات المسلحة في عدد من الأقاليم، وبفعل التعاطي الرسمي السالب، حولت الحكومات الصراعات السياسية إلى حروبات ذات طابع عرقي وديني، خلّفت ملايين من القتلى والجرحي والمصابين والمشردين داخلياً وخارجياً، وعجزت الحكومات المتعاقبة في تحقيق سلام عادل وشامل ومستدام بالسودان، يخاطب جذور هذه الأزمات ويعالج أسباب نشوبها وإفرازاتها، وعدم الإعتماد على الحلول الأمنية والعسكرية التي فشلت منذ عام 1955 في حسم الصراع، بل فاقمت من تعقيدات الأزمة، وكانت سبباً مباشراً لإنفصال جنوب السودان.

●أيضاً أشرتُ إلى المحاولات والجهود المحلية والإقليمية والدولية لمعالجة الأزمة السودانية التي أضحت مهدداً للأمن والسلم الدوليين، فإن أي تداعيات سالبة قد تحدث بالسودان سوف تتأثر بها دول الجوار الإقليمي، بحكم التداخل العرقي والإثني وتشابك المصالح ، وإتساع رقعة الحدود السودانية المفتوحة على سبعة دول، ويصعب السيطرة عليها، ومما يفاقم من خطورة الأوضاع ، إنتشار وتمدد المليشيات القبلية والجهوية، وظهور مليشيات جديدة في مناطق لم تكن مسرحاً للحرب من قبل ، وقد سمعنا بمليشيات “قوات درع الوطن” و “قوات درع الشمال” ، و “قوات درع البطانة”، فضلاً عن المليشيات التي أنشأها النظام البائد مثل مليشيا “شيبة ضرار” ومليشيا “كافي طيار” ، ومليشيات “الجنجويد” ، والمليشيات “الجنوبية” داخل الأراضي السودانية، التي لا تزال تجد الرعاية والدعم من حكومة الخرطوم الحالية.

●اللافت للنظر وما يدعو للدهشة والإستغراب هو إعلان كيان مسلح، قوامه عدداً من الضباط المتقاعدين، أبرزهم الصوارمي خالد سعد المتحدث الأسبق باسم الجيش، عبر مؤتمر صحفي عقد بالخرطوم ، ولم تحرك حكومة الإنقلاب ساكناً سوي إعتقالهم بضع أيام ثم أُطلق سراحهم ، وهنالك من شكك في عملية الإعتقال ، ويعتبرها تمويهاً لإبعاد التهمة عن الحكومة الإنقلابية، ولكن من المؤكد أن هنالك أطراف حكومية أعطت الضوء الأخضر لتكوين هذه المليشيا، فمن الإستحالة بمكان أن يتم إعلان هكذا قوة مسلحة بهذه الطريقة دون موافقة الحكومة الإنقلابية القائمة، لجهة أنها قوات جهوية وقبلية لا علاقة لها بقوات الدولة الرسمية، وبجانب هذا الكم الهائل من المليشيات، هنالك الجيوش الحكومية “أم المليشيات” وجيوش الحركات ، فضلاً عن إنتشار السلاح في أيدي المواطنين بكافة ولايات ومناطق السودان دون حسيب أو رقيب.

●إن الأوضاع الماثلة بالسودان الآن، على فوق فوهة بركان قابل للإنفجار في أي لحظة، مما يستدعي من الجميع تغليب مصلحة الوطن وسلامته وإستقراره، والترفع عن الأنانية الشخصية والأطماع الحزبية، وتقدير الظرف الحرج الذي يمر به السودان ، وقد باتت وحدته وسلامته مهددة على نحو غير مسبوق ، وتعيش بلادنا لحظات حرجة ، مفتوحة على كل الإحتمالات والسيناريوهات والمآلات ، ولستُ متشائماً إذ قلت قد نصحو في صباح يوم ما ، ولا نجد سوداناً نتصارع عليه، فلابد أن نتسامي فوق الآلام والجراحات، والدماء والدموع ، ونضع مدماك في جدار الوطن الآيل للسقوط، فقد حان الأوان لشعبنا أن يرتاح من رهق المعاناة الطويل ، ومن حق بلادنا علينا أن نكفكف أحزانها ، ونسّرج خيول مستقبلها الواعد.

●من أوجب وأجباتنا كسودانيين، إنتشال بلادنا من براثن الحروب وعدم الإستقرار السياسي والسيولة الأمنية وشبح الإنقلابات العسكرية التي أقعدت ببلادنا عن ركب التقدم والتطور والنماء، وننتهج نهجاً وطنياً مسئولاً ، لمخاطبة جذور الأزمة التأريخية بكل شجاعة، وأن نكون على أتم الإستعداد لدفع فاتورة وإستحقاقات كافة الإجراءات التي ستقودنا إلى بر الأمان، والإبتعاد عن تكرار الحلول السهلة والمجربة التي أثبتت عجزها وفشلها، وفي مسيرة بحث الدولة السودانية عن السلام والإستقرار “الفردوس المفقود” ، تم توقيع بعض سبعة وأربعين إتفاقية ثنائية وتسوية جزئية، إلا إنها قد فشلت جميعاً في تحقيق السلام، وأذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

■مؤتمر المائدة المستديرة في جوبا 16 مارس 1965، بين الأحزاب الجنوبية والحكومة السودانية.

■إتفاقية أديس أبابا 1972، بين حكومة جعفر نميري وحركة الأنانيا (1).

■إعلان كوكادام بإثيوبيا 20 مارس 1986، بين الحركة الشعبية لتحرير السودان وحكومة الخرطوم.

■مبادرة الميرغني – قرنق بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا في 16 نوفمبر 1988.

■إتفاقية الخرطوم للسلام 1997، بين منشقين عن الحركة الشعبية بقيادة د. رياك مشار ومجموعة الناصر مع حكومة البشير.

■إتفاقية فشودة للسلام، 1997، بين د. لام أكول أجاوين وحكومة البشير.

■إتفاقية السلام الشامل بنيفاشا 2005، بين الحركة الشعبية لتحرير السودان ونظام البشير.

■إتفاقية القاهرة 2005، بين التجمع الوطني الديمقراطي ونظام البشير.

■إتفاقية أبوجا 2006، بين حركة تحرير السودان مناوي ونظام البشير.

■إتفاقية أسمرا 2006، بين جبهة الشرق ونظام البشير.

■إتفاقية سرت 2007، بين حركة تحرير السودان الأم بقيادة أبو القاسم إمام الحاج ونظام البشير.

■إتفاق التراضي الوطني 20 مايو 2008, الذي وُقِّع بمنزل الصادق المهدي بأم درمان بين حزب الأمة وحزب المؤتمر الوطني الحاكم.

■إتفاقية الدوحة 2010، بين حركة التحرير والعدالة بقيادة د. التيجاني السيسي ونظام البشير.

■إتفاقية الدوحة 6 أبريل 2013، بين العدل والمساواة فصيل محمد بشر وحكومة البشير.

■إتفاق “توقيع الوثيقة الدستورية”، 5 يوليو 2019 ، بالخرطوم بين المجلس العسكري وقوي إعلان الحرية والتغيير.

■إتفاقية جوبا، 3 أكتوبر 2020، بين فصائل الجبهة الثورية وحكومة د. عبد الله حمدوك.

■إتفاق البرهان – حمدوك ، 21 نوفمبر 2021، بالعاصمة الخرطوم.

■الإتفاق الإطاري، 5 ديسمبر 2022 بالخرطوم ، بين بعض مكونات الحرية والتغيير المجلس المركزيوجنرالات الإنقلاب.
(هذا الإتفاق وُلِد ميتاً وسيكون مصيره أسوأ من سابقاته، وأخشي أن يكون سبباً في تفتيت ما تبقي من السودان).

●قد يتبادر إلى الذهن سؤال: لماذا كل هذه الإتفاقيات عجزت في تحقيق السلام والإستقرار بالسودان؟
فالإجابة: إن هذه الإتفاقيات والتسويات قد فشلت لأنها لم تخاطب جذور الأزمة بشكل سليم ، وصُممت لمخاطبة قضايا الأشخاص وأطماع القوي الموقعة ، وجميعها انتهت بمحاصصات ووظائف وإمتيازات، ولم تنعكس على حياة المواطنين، في معاشهم وعلاجهم وتعليم أبنائهم ، بل كانت وبالاً عليهم إذ إرهقت كاهلهم بالضرائب والجبايات لسد العجز في الموازنة التي لم تشبع نهم المستوزرين الجدد والقدامي..!!.

●أيضاً من عوامل فشل الإتفاقيات الثنائية، التدخلات الإقليمية والدولية السالبة، ويجب الإقرار بأن هذه القوي الدولية ليست جمعيات خيرية ، فلها أجنداتها وأطماعها بما يتماشي ومصالحها التي قد تتعارض ومصالح السودان، وقد شاهدنا كيف عبثت المحاور الإقليمية بثورتنا المجيدة، فصارت بعض السفارات الأجنبية في الخرطوم تُملي شروطها على القوي السياسية السودانية، وأصبح تدخلها سافراً ومتجاوزاً لكافة الأعراف الدولية ومراعاة مبدأ السيادة والكرامة الوطنية ، ومع ذلك أنا لا ألومهم كثيراً طالما السودان أصبح “جنينة وخفيرها نائم”، ومع ذلك هذا لا يعني بأنني ضد تدخل الآخرين في شئوننا ومساعدتنا في حلحلة مشاكلنا وأزماتنا ، فالسودان جزءًا من المنظومة الدولية وليس في جزيرة معزولة عن العالم، ولكن يجب أن يكون تدخلهم وفقاً للأعراف الدولية ولا يمس مبدأ سيادتنا على قرارنا الوطني.

●هنالك دول تربطها علاقات تاريخية وأزلية ومصالح متبادلة مع السودان ، ولها مصلحة مؤكدة في تحقيق السلام والإستقرار بالسودان ، وكانت مساهماتها دائماً إيجابية، وبالمقابل هنالك دولٍ تعمل على عدم إنتصار ثورتنا المجيدة، ولا تريد أن تري نظاماً ديموقراطياً في السودان حتي لا تنتقل إليها العدوى، وتعمل سراً وعلانيةً على ديمومة أزمتنا الوطنية ، لأن حالة الحرب وعدم الإستقرار تجعل من السودان مخزناً للموارد الزراعية والحيوانية والمعدنية التى ستحصل عليها مجاناً، وتتمكن من إحتلال المزيد من أراضينا وتسيطر على موانئنا بالبحر الأحمر.

●إن الأسس الخاطئة التي قامت عليها هذه الإتفاقيات السابقة واستبعادها للسواد الأعظم من الشعب ، جعلها معزولة جماهيرياً، تفتقد للتأييد الشعبي، الذي تم تغييبه عن المشاركة صنعها أو استفتائه حولها، فالغالبية لم تحفل بتوقيعها ولم يأبهوا عند فشلها أو نكوص أحد طرفيها عنها، وهي في الحقيقة غير ملزمة لأحد سوي الأطراف التي وقعتها.

●من الخطل ترك أمر تحقيق السلام والإستقرار ومعالجة الأزمات الوطنية، لقوي صفوية صغيرة في “الحكومة والمعارضة” كل همها الإستئثار بالسلطة وتقاسم كعكتها عبر إتفاقيات ثنائية ، متجاهلةً ومستبعدةً، غالبية الشعوب السودانية من المشاركة في إجراءات صُنع حاضر ومستقبل بلادهم ، وللأسف إن هذه الصفوة السياسية الصغيرة وبعد فشل كافة محاولاتها في حل الأزمة السودانية عبر الإتفاقيات الثنائية والتسويات الجزئية رغم عجز هذا المنهج المُجرب، إلا إنها لا تريد الإعتراف والإقرار بهذا الفشل، ولا تريد محاولة وتجريب طرق جديدة أكثر فاعلية ، وتكابر بكل عناد في تطبيق علاج “البصيرة أم حمد ” ، وكأنها تملك “شهادة بحث” السودان، أو إنه قد “وقع لها في كِرتِلّة”، وأكاد أُجزم بأن سكان ” جمهورية الحاج يوسف” أكبر عدداً من جميع عضوية هذه القوي الصفوية مجتمعة…!!

●إن الطريق نحو الخروج من عنق الأزمة الوطنية، يبدأ بالإعتراف بالأزمة ومخاطبة جذورها التأريخية ، وإقرار سلام حقيقي، شامل وعادل ومستدام، والسلام الحقيقي يكون على أرض الواقع وليس على أوراق الإتفاقيات الممهورة، ويستطيع أن يوفر الأمن الذي يحسه المواطن، ولا يتحقق الأمان بنشر الجيوش في الشوارع والطرقات فقط، فإذا يحس الشعب بالأمن والطمأنينة ، فلا معني للسلام حتي وإن نشرت مليون جندي في كل ركن من أركان السودان، فكم من سلام تم توقيعه أمام شاشات التلفزة وكاميرات الصحافة، فضاع لحظة توقيعه، ولم يعد له وجود في أرض الواقع، وفشل في إيقاف جرائم القتل اليومي وعمليات السلب والنهب، وحرق البيوت والممتلكات، وتشريد الآمنين، ولكي نصل إلى سدرة منتهي السلام المفقود ، لابد أن نعبر الجسور التالية:

■نزع السلاح من أيدي المليشيات والقبائل، ويكون إحتكار العنف للجهات الرسمية حصراً.

■إعادة كافة المشردين من النازحين واللاجئين إلى مناطقهم الأصلية طوعاً، بعد طرد أي شخص أو مجموعة استولت على أراضيهم، سواء كان ذلك تم بإيعاز من الحكومة أو من تلقاء أنفسهم، وأن تلتزم الدولة بتعويضهم عن كل ما لحق بهم من أضرار وخسائر، تعويضاً فردياً وجماعياً ومعنوياً ، وفقاً للمعايير العالمية.

■تحقيق مباديء العدالة والعدالة الإنتقالية ومحاسبة كافة مرتكبو الجرائم والإنتهاكات، والتعاون المطلق مع المحكمة الجنائية الدولية وتسليمها المطلوبين، وضمان عدم الإفلات من المحاسبة والمساءلة عن كل الجرائم والإنتهاكات التي وقعت.

■إقامة مؤتمر قومي في داخل السودان ، مهمته مخاطبة كافة القضايا والأزمات الوطنية وجذورها التأريخية، وإيجاد العلاج الناجع لها، تشارك فيه؛تنظيمات الشباب والنساء والمجتمع المدني والأحزاب السياسية وحركات الكفاح المسلح، والنازحين واللاجئين، وضحايا الخصخصة والتمكين والصالح العالم، نقابات الأساتذة والمدرسين، إتحادات الرعاة والمزارعين، الإدارات الأهلية والزعماء الدينيين، نقابات العمال والموظفين، والقضاة والمحامين، الكتاب والمفكرين ، الصحافيين والإعلاميين، المؤسسات العسكرية ، وجميع فئات ومكونات الشعب السوداني عدا النظام البائد وواجهاته ، تشمل جلسات المؤتمر كافة أقاليم السودان، وأن يكون منقولاً مباشرةً عبر كافة القنوات والإذاعات، حتى يتابعه كل الشعب السوداني والعالم ، ليعرفوا ماذا ناقش المؤتمرون، وفيما إتفقوا أو إختلفوا ، عدا تلك المداولات المتعلقة بالأمن القومي، التي يجب توثيقها للتأريخ.

■تصبح مخرجات وتوصيات مؤتمر الحوار نصوصاً دستوريةً ملزمة ، غير قابلة للإلغاء أو التعديل من أي جهة، وعلى ضوء هذه المخرجات يتم تشكيل حكومة إنتقالية مدنية بالكامل من شخصيات ثورية مستقلة ، تعمل الحكومة الإنتقالية على تنفيذ البرنامج والمشروع الوطني الذي أقره المؤتمر ، وأن تكون كافة مؤسسات الدولة تحت سلطة وتصرف رئيس الوزراء، ويذهب العسكر إلى ثكناتهم، وتذهب الأحزاب السياسية إلى ترتيب أوضاعها الداخلية، تنفيذ بند الترتيبات الأمنية للجيوش المتعددة وفق المعايير الدولية ، وتكوين جيش قومي واحد ، بعقيدة عسكرية وقتالية جديدة، ومن ثم يجهز الجميع ،بما فيه حركات الكفاح المسلح التي تحولت إلى أحزاب مدنية، يجهزوا أنفسهم ويرتبوا تحالفاتهم ويستعدوا للإنتخابات الديمقراطية المراقبة دولياٍ بنهاية الفترة الإنتقالية….وحينها نبارك لكل من نال ثقة الشعب وحاز على أصوات الأغلبية !!

#نقاوم_ولا_نساوم

9 يناير 2023م

مقالات ذات صلة

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x