مقالات الرأي

إذا ما الجُرحُ رم على فسادٍ تبين فيه إهمال الطبيب (١)


بقلم: الصادق علي حسن المحامي

الشاعر البحتري من قرون خلت قدم وصفة طبية بحكمة بالغة تصلح في توصيف تشخيص أعراض الأزمة السياسية السودانية القائمة منذ الإستقلال وفي تحديد أسباب علاتها وعلاجها ، فأزمات التنظيمات السياسية السودانية في الأساس ناتجة عن إهمال الأحزاب ممارسة الديمقراطية ممارسة حقيقية ، وما لم تُعالج ازمات وعلل التنظيمات السياسية وتمارس الديمقراطية بصورة سليمة ونزيهة لن تتمكن التنظيمات السياسية الحزبية من الوصول إلى إدارة الدولة بطرق صحيحة وحتى عند وصولها إلى السلطة باي طريقة من الطرق لن تتمكن من الإستمرار فيها او المحافظة عليه ، كما وسيجد العسكر الذين يتربصون بالسلطة عقب كل ثورة جماهيرية والإطاحة بالشمولية والشموليين (عساكر ومدنيين) وإخراجهم من الباب سيجدون هنالك نافذة أخرى مشرعة للعودة من جديد بالشباك والإطاحة بالحكم المدني في مسلسل مستمر منذ إنقلاب عبود في ١٧ نوفمبر ١٩٥٨م ، وفي هذه التجربة الرابعة للإنتقال الديمقراطي عقب الإطاحة بالبشير إنقلب العسكر على النظام الذي تولوا فيه السلطة مع شركائهم من قوى الحرية والتغيير وعصفوا بمكاسب اعظم ثورة جماهيرية مرت في القرن الحالي والذي سبقه بشهادة العالم كله وذلك بالتفريط من القوى السياسية الحزبية والتي ساهمت بقدر واف في ضياع مكاسب الثورة لتتجدد شعلتها مرة أخرى في نفوس الشباب الذي ظل يقدم التضحيات المستمرة بلا توقف ،وفي المقابل لا زالت التنظيمات السياسية قابعة في أماكنها ،لم تتعلم من الدروس المستفادة وظلت بذات نهجها البالي وهنالك منها من تعتقد بان مجرد التوافق على عودتها والقبول بتشكيل حكومة مدنية بموجب الإتفاق الإطارئ والذي فيه من الثغوب ما فيه كما واحتفظ فيه من ارتكبا افظع الإنتهاكات بحق الثوار والدولة نفسها بوضعيهما في قيادة الجيش والدعم السريع ، لقد بات وأضحا ان الأزمة السياسية بالبلاد مكمنها في دور الأحزاب وقد تطورت الأزمة ولم تعد قاصرة على ضعف التنظيمات السياسية الحزبية وإفتقارها للبرامج والخطط وعدم ممارستها للديمقراطية القاعدية في حدها الأدنى المعقول حتى تنمو وتزدهر في داخل دورها وتمارسها عضويتها وتترعرع لتخرج من دورها للشارع العريض فتنعكس على الحياة العامة وقد شبت وقوي عودها لتصبح ممارسة عامة تتوارثها الأجيال المتعاقبة ثقافة عامة مشبعة بقيمها ومبادئها وممارستها السليمة، ولكن من يبحث عن الديمقراطية في ممارسات ودور الأحزاب لا يجدها بل يجد إدارتها أقرب للنخب والشلليات وتدثرها بشعارات الديمقراطية في خارج دورها وإنفصالها في ذات الوقت عن قواعدها كما وقد صارت ممارسة السياسة بالنسبة للمتحزبين عبارة عن سلما للوصول إلى المناصب والمكاسب والثروات العامة بمثلما صار تأسيس الأحزاب والحركات المسلحة أسهل من تأسيس الشركات التجارية الخاصة كما ولا يترتب على انشائها اي التزامات تجاه المجتمع أو الدولة او اي مسؤولية وكل مقومات التأسيس إسم وظهور في وسائل الإعلام والوسائط هذه الظواهر لها آثارها الضارة بالممارسة السياسية بالبلاد وفي إحترام نظم الدولة المرعية في الممارسة السياسية الراشدة وبجانب ذلك تحولت الحركات المسلحة المطلبية إلى شعارات ومزايدات في ساحة اشبه بسوق عكاظ تعج بالمنازعات والتخوين والتراشق في مسرح العبث السياسي وسهولة الإعلان عن تكوين أي حزب سياسي اوحركة مسلحة، لافتات مرفوعة وتحتها إستثمارات خاصة ومصالح لافراد واسر وصداقات وصارت البلاد طاردة لشبابها نحو ابواب الهجرة المجهولة ،المشروعة منها وغير المشروعة للبحث عن حياة افضل، لقد تعمقت الأزمة السياسية بالبلاد وتجذرت وقد غاب عنها وعن اذهان مواطنيها بمكوناتها الإجتماعية المتعددة والمتنوعة مفاهيم المواطنة المشتركة وتغلبت على نظرات العديد من مكوناتها الاثنية المتنوعة الإنتماءات الجهوية و المناطقية والإجتماعية والعرقية، والبلاد لم تبرح مكانها منذ استقلالها ولا تزال عبارة عن مشروع لدولة تحت التأسيس تعاني من الهشاشة الأمنية والمنازعات القبلية وإنتشار السلاح، وقد صارت ممارسة السياسية في السودان بشقيها السلمي المدني أو المسلح لا تتطلب البرامج اوالتنظيم اوالتأهيل بل تحتاج لحلقوم واسع وكبير ينتفخ بالكلمات والعبارات التي تدغدغ المشاعر والوجدان أو بندقية مطلبية وكدمول ومجموعة تعلن عن نفسها كما يحدث هنا وهناك حتى اعلنت مجموعة بجراءة متتاهية عن نفسها بتكوين جيش بإسم قوات درع السودان من داخل العاصمة بشرق النيل وقبل ذلك اعلن الناطق الرسمي بإسم القوات المسلحة في ظل نظام البشير البائد الصوارمي عن جيش وحركة مسلحة والتهديد الصريح بالحرب وكأن لم يحدث شيئا في ظل مسرح العبث السياسي.
الجنرال حميدتي يتحدث عن ندمه لمشاركته في إنقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م وقوى الحرية والتغيير التي أطلقت على نفسها القوى المدنية الموقعة على الإتفاق الإطاري تسارع لترحب وفي ترحيبها تؤكد بأن خطاب حميدتي داعما للإتفاق الإطاري ونقل السلطة لها وذلك ما يهمها ولم يخطر على بالها مجرد خاطر بان الإنقلاب الذي تحدث عنه حميدتي وعن مسؤوليته فيه وما اعقبه من جرائم قتل جزافي ودمار ان هنالك المسؤولية الجنائية عن مقتل اكثر من مائة خمسة وعشرين شهيدا من شباب قوى الثورة وفي الإقرار ثبوت المسؤولية الجنائية على من يُقر بالمشاركة في الإنقلاب والذي يمثل امتدادا لجرائم مجزرة فض الإعتصام المرتكبة ، قوى الحرية والتغيير الموقعة على الإتفاق الإطاري مزهوة بدعم الوساطة الدولية وهي لا تُدرك انه في هذه المرة حينما يثور الشارع سيثور عليها ولن تجد البرهان الذي في مصلحته الثورة وقد تملص عن المسؤولية كما ولن تجد حميدتي الذي حصن نفسه بالإتفاق الإطاري وستحاصر الثورة الشعبية الحكومة الصورية القادمة بسلكها ودقيرها وطهها ومريمها وجعفرها وفكيها وياسرها وغيرهم من في الركب .
التحذير من شيطنة الأحزاب :
كثيرا ما تجد هنالك من يحذر من شيطنة الأحزاب وان في ذلك تقديم مبررات للعسكر للتمسك بالسلطة وهؤلاء ينظرون لنقد ممارسة الأشخاص الذين يديرون الأحزاب بأنه نقدا للأحزاب نفسها وهنا يجب الفصل ما بين الأحزاب وممارسات من يتولون شانها فالأحزاب كيانات اعتبارية وملكية عامة كما وحينما يتم النقد للبرهان وعناصر اللجنة الأمنية للنظام البائد الذين ورثوا السلطة وحميدتي فإن النقد تعني ممارسة الأشخاص، لذلك من الخطأ الخلط في الحالتين بما يخدم تحصين الأفراد من النقد والذي قطعا سيؤدي إلى إضعاف المؤسسات العامة الحزبية والعسكرية لذلك وبالضرورة ممارسة النقد الموضوعي تجاه ممارسة الأشخاص سواء الذين يمارسون السياسية بالغطاء المدني أو العسكري حتى تتعافى البلاد من الممارسات الخاطئة التي اقعدت بالدولة وشعبها .
شباب الثورة والأمل في جيل طال إنتظاره :
مكث النظام السابق في السلطة لثلاثين عاما وعجزت غالبية الأحزاب عن مناهضته وحينما اعلن المخلوع ترشحه لإنتخابات ٢٠٢٠م اعلن حزب المؤتمر السوداني عن مشاركته في تلك الإنتخابات وكانت له مبرراته، وقبل ذلك بسنوات وفي زيارة لواشطن مع الأستاذ الدومة تمت إستضافتنا في منتدى حول السودان بمشاركة قسم السودان بوزارة الخارجية الامريكية لقد كان المنتدى حول التحول الديمقراطي في السودان ووقتذاك كانت الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال بعد إنفصال جنوب السودان بقيادة عقار والحلو وياسر عرمان ، القسم المختص بالسودان بالخارجية الأمريكية كان واضحا في رأيه ان الأحزاب السودانية بوضعها غير قادرة على إحداث التحول الديمقراطي وفي ذلك المنتدى ظل الأستاذ الدومة يؤكد بأن تلك التقديرات خاطئة وان التحول الديمقراطي يحدثه الشعب وليس التنظيمات السياسية بخلاف رأي القسم الأمريكي في المنتدى والذي كان يرى ان نظام البشير قويا والأحزاب قدراتها لا تؤهلها لإزاحة البشير ،الأستاذ الدومة كان متمسكا بان الشعب السوداني حينما يقول كلمته ستنحاز قيادة الأحزاب والتي لن تجد مناص، في المنتدى المذكور من الشواهد التي قدمت وناهضها الأستاذ الدومة بشدة وبدفوعات غير مسنودة بدلائل ما قيل بواسطة القسم المذكور بان القوى السياسية المعارضة سبق لها ان اجمعت وأعلنت عن إنطلاق حراك للإطاحة بالبشير في فترة مائة يوما فقط وانقضت الفترة المحددة فعام بأكمله واكثر من دون اي نشاط أو اي حراك جماهيري في الشارع وهنا كانت تصريحات قيادات القوى السياسية وعلى رأسها رئيس قوى الإجماع الوطني الأستاذ فاروق ابوعيسى ود مريم حاضرة لدى القسم المعني بالسودان في الخارجية الامريكية، كما تحدث القسم الأمريكي في المنتدى برفض استغلال الحركات المسلحة للأطفال ومنعها لوصول الأغذية والمساعدات الإنسانية للمتضررين من المدنيين في المناطق المتأثرة بالحرب في جبال النوبة عبر ممرات آمنة في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام في الخرطوم وهنا أيضا انبرى الأستاذ الدومة للدفاع عن موقف الحركة الشعبية شمال بقيادة عقار والحلو وعرمان من إعلان عدم قبول وصول المساعدات الإنسانية للمدنيين بمناطق سيطرة الحركة عبر ممرات آمنة بالمناطق الخاضعة لسيطرة حكومة النظام ، كما واجتهد الأستاذ الدومة بالقول بان المنسوب للحركة الشعبية شمال في الوسائط بعدم التعاون عبارة عن خطاب سياسي للإعلام والحركة الشعبية تظل تتعاون في القضايا الإنسانية وكان الرد أيضا للدومة بخطاب رسمي صادر من امين عام الحركة بذات نفسه الأستاذ ياسر عرمان فوجم الدومة كما وكرر القسم الأمريكي في المنتدى بان أمريكا لن تسمح باستخدام الأوضاع الإنسانية باي حال وترفض منع وصول الأغذية الضرورية للمتأثرين وان ذلك المنع يتنافى مع القيم الإنسانية وشعارات الدفاع عن مطالب وظلامات المدنيين المقهورين بالمناطق المتأثرة بالحرب .

  • تعاون الغرب مع النظام البائد :
    المعلوم بالضرورة ان الغرب ونتيجة للهجرة الكثيفة من البلدان الأفريقية لأوربا صار يتخلى عن التزامه بمبادئ وقيم حقوق الإنسان تجاه طالبي الهجرة كما وصار ينظر للمهاجرين الذين ياتونه من كل حدب وصوب بخلاف نظرته في السابق، والسودان قد صار من أهم الممرات للمهاجربن غير الشرعيين ،ولمكافحة الهجرة غير المشروعة تعاون الغرب مع الدعم السريع كما كان هنالك تعاونا مع البشير في ما يسمى بمكافحة الإرهاب وقبل ثورة ديسمبر المجيد ٢٠١٨م كان الغرب يبحث مع نظام البشير عن ترتيبات يضمن فقط التحسن في أوضاع حقوق الإنسان بالسودان والتزامه بالتخلى عن الترشح لإنتخابات ٢٠٢٠م فيحل محله احد من منسوبي المؤتمر الوطني، ولم يخطر في بال الغرب وقتذاك بان الشعب السوداني عبر شبابه سيقول كلمته الحاسمة ، إن قوى الإتفاق الإطاري والتي اخفقت في إدارة الدولة في عهد حمدوك لا تزال تعتقد بان مساندة الغرب لها سيمكنها من الوصول إلى السلطة مرة أخرى بل اعلنت قيادتها بان ستشكل حكومتها قبل منتصف مارس القادم وآخرون يتحدثون عن رمضان ولا تدرك هذه القوى بان مفتاح الحلول لأزمات البلاد ليس في تكوين الحكومة المدنية وانما في إستعادة الدولة المدنية اولا في اذهان المواطنين وفي إحتكار الدولة لوسائل العنف وما لم يحدث ذلك فإن الإنتخابات العامة إذا نظمت في ظل هذه الأوضاع ستكرس الإنتخابات للمزيد من أسباب التشظي بين المكونات الإجتماعية ولن تسلم صناديق الإقتراع هذه المرة من هجوم الأطراف المتنافسة عليها .

مقالات ذات صلة

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x