مقالات الرأي

حكايتي مع النعامة…!!

بقلم: محمد عبد الرحمن الناير (بوتشر)

●كنت طفلاً مشاغباً كثير الجريان والمطاردة ، مغرم بالصيد ومطاردة الطيور، لدرجة أن جعلت لي ركناً داخل “التبلدية أم قد” بالقرب من بيت حبوبة مستورة، أذهب إليه في وقت الظهيرة وخلود الناس للراحة كي ألهو من أبو الرقيع “الخفاش” والثعابين وأقلق راحتهم في مسكنهم داخل بطن الشجرة.

●كثيراً ما عرّضتُ حياتي للخطر ونجوت من لدغات الثعبانين، وكنت لا أخشي لدغة العقارب ولسعات النحل كونها من الأمور العادية التي تواجهك بشكل روتيني وما عليك إلا عمل لبخة من العشب تعلمناها من البيئة ووضعها في مكان اللدغة وسرعان ما يزول الألم.

●قرية “دبكاية الناير” لا توجد فيها روضة أو مدرسة للأطفال، فقط أن جدنا الشهيد المامون عليه الرحمة يقوم بتدريسنا القرآن والحديث وكتابة الحروف في خلوته وهي عبارة عن كوزي (قطية) من القش وأمامها راكوبة كفصل دراسي.

●كنا نكتب في اللوح بالدواية التي نصنعها بأنفسنا من الفحم والصمغ وإضافة قليل من الماء ليكون حبراً سائلاً أسود اللون، وفي الخلوة نأكل “أم دفانة” وهي قطعة خبز من دقيق الذرة والملح وتطمر في المّلّة “الرماد الحار”، وهي نوع من التربية على حياة التقشف التي اشتهرت بها الطرق الصوفية بالسودان.

●كنتُ كثير التمرد على جدنا المأمون عليه رحمة الله ، وأحياناً أتغيب عمداً عن الخلوة ولكن يتم إرغامي بالعودة تحت جلد سياط شجرة اللّيُون، وما ألبث أن أختلق مشاجرة مع أحد التلاميذ كي أجد المبررات لطردي من الدراسة، ولكن في الغالب آخذ علقة ساخنة وتمديد فترة وجودي في الخلوة…!!

●نفرتُ عن الخلوة لأنها تحول بيني وبين ممارسات هوايتي في اللهو والصيد والذهاب إلى نقعة المردوم ، حيث الشباب والشابات يرقصون رقصة النقارة والمردوم منذ الثالثة عصراً وحتي مغيب الشمس.
كان يعجبني كشكوش الشباب والتلاليل والمناضر وريش النعام التي تزين عراريقهم، وتستهويني ضفائر الشابات المرصعة بالودع والمعطرة بالتربلول وجيدهن الذي تجمله التيلة والكثير من أدوات الزينة، فننظر إلي أولئك الفتيات ببراءة الأطفال كفارسات لأحلامنا، ولابد أن نتزوج إحداهن عندما نكون شباباً…!!

● إن لعب النقارة والمردوم يتم بشكل دوري بمناسبة ومن غير مناسبة، وفي مناسبات الأفراح “الزواج والطهار” يأتي الشيب والشباب والأطفال من كل القرى المجاورة، النبق، مليس، الأردو، الشياب، البطاية، بردانة وغيرها، وتكون هنالك مباريات الرقص بين شباب هذه القرية وتلك، والجمهور هو الحكم الذي يحدد الفائز من خلال العروض والفنون التي يقدمونها.
وتسمع همس الشباب حول تلك الحسناء فاتنة الجمال (أم حنيجير جدي الريل، أم رقيبة قزاز ، المسيرة درب ترتل “تراكتور”) وهي قد ألهبت مشاعرهم وأحاسيسهم.

●هنالك رقصات خاصة بكبار السن من الجنسين، منها لعبة “القُدرة” وهي ذات إيقاع جميل نشاركهم فيها بكل فرح وسرور.

●إن قرية دبكاية الناير فيها خليط من الناس الذين تربطنا معهم علاقة نسب أو مصاهرة أو صداقة، وحتي الغريب فيها لا يسمى غريباً، فكل الناس أهل ، ودائماً ما يقول كبارنا لا تنسبوا الناس إلى قبائلهم وأعراقهم ومناطقهم التي جاءوا منها، فإنهم جزء لا يتجزأ منكم، وتجد كل الناس معاً في السراء والضراء ، فالبادية تحتضن الجميع ويذوب عندها الجميع لغةً وثقافةً ونمط حياة…!!.

●يمتهن سكان قرية دبكاية الناير حرفتي الرعي والزراعة، فهم رعاة ومزارعين في آن واحد، وعند المسير شمالاً مع الضعينة في بداية فصل الخريف يبقى بعض أفراد الأسرة في القرية لزراعة المحاصيل ومن ثم اللحاق بالضعينة بعد إكمال الزراعة، وآخرين يفضلون البقاء في الحلة لا سيما العجزة وكبار السن.

●أعود إلى حكايتي مع النعامة:
في يوم من أيام الخريف ذهبت إلى “حدبة اللعطية” مع بعض أقراني، مسلحين بالحراب والعصي والفرافير “جمع فرار” والسفاريك، في رحلة البحث عن صيد الوزين، أبو شوك، الغزلان والأرانب، بعد أن خاب فألنا في العثور على صيد من رهد أبو شنب والدبكاية الحميرة وفيض خال دقو ووادي شلنقو.
في أثناء بحثنا المضني عثرنا على نعامة مع كتاكيتها الزغب، وبعد مطاردات ومعركة حامية الوطيس والكر والفر استطعنا القبض على اثنين من صغارها، وواصلنا رحلة الصيد الذي كان وفيراً في ذلك اليوم.

●بعد نهاية الرحلة وإقتسام الصيد فيما بيننا، كان أحد فراخ النعامة من نصيبي، وقد جلبته إلى البيت منتشياً كي يعيش مع دجاجي البلدي الذي أحبه لدرجة كنت أرفض ذبحه، وعندما تريد أمي ذبح ديك لابد أن تدخل معي في تفاوض شاق يصل أحياناً مساومتها أن تقايضني بدلاً عنه تيساً من أغنامها…!!.

●لم أدر أن المصيبة التي جلبتها ستكون وبالاً على دجاجي؛ فقد كبرت نعامتي ونما ريشها، وأصبحت تذهب إلى الرهد المجاور بحثاً عن الجراد والحشرات وتأكل الحجار الصغيرة ومن ثم تعود إلى البيت لوحدها، فأطمأننت على عدم هروبها، ولكن ليتها هربت..!!

●إكتشفت أن كتاكيت دجاجي تختفي في ظروف غامضة، وأحترت في أمرها، ففي البدء ظننت أن قطاً برياً هو الذي يأكلها ولكن القط يحبذ الدجاج وليس الكتاكيت الصغيرة، هل هو ثعبان “البُرُل” أم هو حيوان “أبو أنكوي” الذي يأخذ كتاكيتي…؟!!.

●ظللت في رحلة بحث وتفكير لفك هذا الطلسم العجيب، إلى أن كانت المفاجأة، حيث وجدت النعامة راقدة أسفل زير الموية وهي تنتف في كتكوت صغير، فأصبت بنوبة غضب عارمة وقذفتها بفرار كان بيدي، فحطم الزير، فوقعت في ورطة مع أمي مع حكاية الزير وما أدراك ما الزير…!!

●حكمتُ على النعامة بالإعدام ذبحاً بالسكين وشيها في الجمر، ورغم المناشدات والرجاءات بعدم ذبحها، وتخويفي أن لحم النعام يسبب الأمراض وهشاشة العظام ورخي الأعصاب إلا أن الثأر لكتاكيتي كان مسألة لا تقبل المساومة، فذبحتها وشويتها وأكلتها وحدي، ومع ذلك لم تفش غبينتي وحسرتي على كتاكيتي المغدورة، وما جلبته لنفسي من مصيبة…!!.

#كسرة:

كم من الناس قد جلبوا نعاماً إلى حظائر دجاجهم، فتورطوا بما صنعت أياديهم؟!.

#كسرة_أخيرة:

الحمد لله أن نعامتي لم تكن عندها دوشكا ولا مضاد أو تاتشر، وإلا لكنت اليوم في عداد المجغومين…!!

#دنيا_زايلي_وزايل_نعيمكي

11 يونيو 2023م

مقالات ذات صلة

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x