مقالات الرأي

من لا يتعلم من أخطاء الأمس سيموت أكثر من مرة

بقلم: الهادي قادم


“من لا يتعلم من أخطاء الأمس سيموت أكثر من مرة”
كلما قالوا: وصلنا .. خر أولهم الى قوس البداية
أيها البطل أبتعد عنا لنمشي فيك نحو نهاية أخرى، فتبا للبداية!
أيها البطل المضرج بالبدايات الطويلة قل لنا: كم مرة ستكون رحلتنا البداية؟
محمود درويش

“في البدء كانت الثورة فجمعوا بها ثروة، فثارت عليهم وعادت ثورة وعي”

نحن في مرحلة اختلاط الحابل بنابل ما قبل فرز الكيمان وسريان دواء وقف الحرب وتأسيس وطن يسود فيه القانون وتكون فيها المواطنة على أساس الحقوق والواجبات، ولكن المتتبع للأحداث اليوم يرى الساسة والنخب وأمراء الحرب أيا كانوا وكعادتهم لا يحبذون إنتهاء اللعبة بطريقة طبيعية، بل يجدون ويقترحون ألف سبيل وسبب لاستمرارها المشوه.

السودان بعد ديسمبر ليس كسودان الخمسينات والسبعينات والتسعينات وحرب الخامسة عشر من أبريل ليست ام دبيكرات أو الميل أربعين، والقبائل التي تم إستخدامها بالأمس كجنجويد وكلاب صيد للمركز الإسلامو عروبو والحارس الأمين للمشروع الحضاري لم تعد تحلم بالكلاء ورياسة الماشية ولم تعد تستسيغ التبرز في العراء، بل صارت تبحث عن وجودها وماهيتها الإنسانية وسط هذا الضجيج. لقد تغيرت الموازين وانغشع الضباب من أعين البسطاء والمستغلين. ومن يظن بأن الحرب الأهلية مخرجا لورتطه فهو واهم.

كما قلت لا تحبذ نخبتنا إنهاء اللعبة الخاسرة وفتح باب جديد ليلعب الجميع بالتساوي وبشكل عادل، بل تقرأ من ذات الكتاب وتستخدم ذات التكتيك “فرق تسد”، ومع ذلك لا يتعلم الخصم المسحور بالانتقام فن اللعبة ويقع في الفخ مرة وثانية ورابعة وألف لتستمر اللعبة بذات القانون القديم وهكذا الى ما لا نهاية، ولكن هل تسلم الجرة كل مرة؟.

من الذي صنع الفتنه ومن الذي ملش وسلح القبائل العربية في كردفان ودارفور:”قريش1 وقريش2، النهب المسلح، الدفاع الشعبي، حرس الحدود، المراحيل ، كتائب الظل والدعم السريع.. الخ من؟؟”، عندما طفح الكيل والتهميش وانطلقت الثورة المسلح في دارفور وغيرها من المناطق المهمشة في السودان، لم يكن هدف الثوار تجفيف هذه الأقاليم من القبائل العربية وإلا لما انضم الكثير من شباب هذه القبائل الى صفوف الحركات المسلحة وروافدها بالجامعات السودانية، فالثورة كانت من أجل تحرير السودان من الظلم والتنمية غير المتوازن وتأسيس دولة المواطنة الحرة وسيادة حكم القانون، فوصفها المركز حينها بقبائلها، “حركات دارفور وحركة النوبة” وكل حركة سميت بقبيلة رئيسها.

ما الذي حدث بعد ذلك؟ تحركت حكومة المركز وفتحت باب الإرتزاق بإستثمار النعرات القبلية وهشاشة بنية المجتمعات وتخلفها هنا وهناك لضرب النسيج الإجتماعي وشل الرؤية الموحدة للقبائل ذات المصير المشترك للحيلولة دون الالتفاف حول الثورة، ونجح المركز ممثلة في استخباراتها العسكرية في مسعاه عبر مفهوم الإلغاء وسياسة: “أضرب العبد بالعبد” فتم تحويل الثورة السياسية بنجاح من ثورة وعي وحقوق ومواطنة ومصالح مشتركة إلى حرب بين عرب وزرقة بدارفور ومسلمين وكفار بالإقليم الجنوبي وجبال النوبة؛ وعندما نضجت شجرة الفرقة وتمزق النسيج الإجتماعي استخدمت حكومة المركز المغيبين من البدو، “من لم تفتح لهم مدرسة يوما للتعلم ومن لم تحفر لهم بئرا للسقيا ولا شفخانة للعلاج”، فاختلطت الأوراق وحدثت الجرائم الإنسانية الكبرى بأمر الحاكم.

حدثت الإبادة الجماعية في دارفور عندما غيبت الخرطوم قبائل بعينها بسياسة المجتمع المغلق بفصلها من التحضر والتعليم وعاملتهم كوحوش باستثمار جهلهم كسكان خيام رعاة كأدوات باطشة لحرق قطاطي المزارعين، فتحولت معركة الثورة المسلحة المطالبة بدولة المواطنة الى حرب بين رعاة ومزارعين وأراضي وحواكير، إستطاعة الخرطوم تفريغ الحركات من محتواها السياسي والجنرال منتشي برجاحة عقله وقدرته على ادارة الأزمات وترويض الخصوم السياسيين ويستمتع بحكاوي الاغتصاب وأنين الغلابة وأخبار الفناء المجاني للزرقة والعرب من برجه العاجي.
عندما انزلق المجتمعات في أتون الحرب الأهلية بإقليم دارفور، كانت القوات المسلحة السودانية في المؤخرة تضبط الإحداثيات للطيران لتجحظ على من تبقى وترفع التقارير للجنرالات في الخرطوم ليهندسوا الإتفاقيات مع من لانت همته من الثوار!.

من لا يتعلم من أخطاء الأمس سيموت أكثر من مرة

حين نفض الدعم السريع يديه وهو الزراع البري القوي لدولة المركز الاسلامو عروبي، صرخ وماج كهنة المعبد الشيطاني وقزفت حارسها الأمين بما تجيده من السباب والشتائم ووصفتهم: ب”العبيد، عرب الشتات، المرتزقة التشاديين”. بالضبط كما فعلته من قبل مع الحركات المسلحة وتيمم بلابستها شطر الشمال تستجدى ذاكرة محمدعلى باشا وعادت حليمة لعادتها القديمة ويا زيد كأنك ما غزيت وعندما فشلت عادت منكسرة تستجدى دعم ومساندة أعداء الأمس لتخلق منهم أدوات مطبخ ووقود حرب لتدبيل حلة دولتها الآفلة.

تخيلوا السيناريو الآتي لعشرة سنوات قادمات حالة وضعت الحركات المسلحة يدها فوق يد القوات المسلحة وساندتها ” لا أعتقد بأن الحركات بهذا الغباء ولكن مجرد سيناريو”.
تخيل لو انتدلعت الحرب ولم تنتصر الحركات على الدعم والعكس أو تخيل لو انتصر أحدهم على الأخر، من سيكون المنتصر الفعلي يا ترى؟

السيناريو:
“عندما شارف الجيش السوداني بقيادة البرهان وعلي كرتي أن ينهزم من قبل قوات الدعم السريع وقبيل أن يستسلموا جاءتهم النجدة من حركات الكفاح المسلح التي قاتلوها لأكثر من عشرون عاما وتسببوا في إبادة أهاليهم وحشر من تبقى منهم في معسكرات اللجوء والنزوح، ألقت حركات الكفاح المسلح كل المظالم وبراميل الانتنوف والقرى المحروقة وأحلام النازحين خلفها وساندت الحركة الإسلامية في حربها ضد الدعم السريع، وكانت معركة شمال دارفور الفاشر هو الجسر الذي إنتقلت منه الحرب من الخرطوم الى الإقليم المنكوب بإعادة سنوات الإبادة إلى أذهان السكان المحليين، هذه الحرب الذي مازال مشتعلة لأكثر من عشرة سنوات بين حركات الكفاح المسلح والدعم السريع قضى على آخر خيط للنسيج الإجتماعي بالمنطقة، هذه الحرب الأهلية الشاملة في السودان فتح المجال واسعا لعودة الحركة الإسلامية الى سدة الحكم بعد أن قاربت الى التلاشي بثورة ديسمبر والحرب التي اندلعت في الخامسة عشر من أبريل، وعلى الرغم من دعم حكومة المركز للقبائل الزنجية في دارفور ضد القبائل العربية منذ كانون الثاني 2024 إلا أن فرضية الحسم والإنتصار العسكري على قوات الدعم السريع مازالت بعيدة المنال”.

تخيل هذا السيناريو فلو كانت بداية الكفاح المسلحة انطلقت بأسلحة خفيفة ومركبات تحسب بأصابع اليد، استمرت عشرون عام، فكم يا ترى ستستمر هذه الحروب العبثية، ونحن نتحدث عن بلاد متعددة الجيوش، تعداد واحدة فقط منها يفوق المليون مقاتل أعمارهم بين خمسة عشر وخمسة وعشرون عام، من الذي سيدفع فاتورة استمرارها وتدهور حال الغلابة ومن الذي سيدفع فاتورة تنامي الجهل والعنف غير الغلابة أنفسهم؟

ما لم نغير عقليتنا وننظر للوقائع بطرائق تفكير مختلف وخطط عملية, بعيدا عن العاطفة والغبن ومرارات الماضي سندور ونلف وسنردد في دواخلنا: “كلما قالوا وصلنا خر أولهم الى قوس البداية”، وستكون فاتورة سنين الضياع والبطالة والفاقد التربوا عاليا ومكلفا جدا.

أتمنى الحرب يقيف اليوم قبل الغد وأن نتعلم من أخطائنا بإيجاد صيغة إتفاق وبرامج سياسي رشيد يجمعنا لا يفرقنا.

مقالات ذات صلة

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x