مقالات الرأي

الإدارة الأهلية بين التفكيك والتمكين في ظل الأنظمة السلطوية


بقلم: د.إبراهيم عمر (صاروخ)
(باحث في قضايا السلام والتنمية)



أطلق اسم الإدارة الأهلية لأول مرة في السودان إبان عهد الاستعمار البريطاني المصري(1899- 1956م)، وسمي بذلك للتمييز بين الحكم الأهلي في مقابل الحكم الأجنبي، وعلى الرغم من ذلك ظل المسمى كما هو حتى بعد انتقال الحكم إلى السودانيين أنفسهم أي بعد نيل الاستقلال إلى يومنا هذا، لكن قبل ذلك التاريخ كانت تسمى الإدارة الأهلية بالإدارة العشائرية في عهد السلطنات القديمة ودولة المهدية وسلطنة دارفور، حيث يتطلب إنشاؤها في السابق حيازة المجموعة لرقعة أرضية أي ما يعرف ب( الحاكورة أي الدار) كما أن انتقال السلطة فيها يعتمد على نظام الورثة، فظهور هذه المؤسسة الإدارية إلى حيز الوجود غير محدد التاريخ بدقة، فربما قد سبقت في ظهورها تلك السلطنات والمماليك القديمة، لأنها تعد أنموذجا للإدارات في المجتمعات التقليدية، وتمتلك هذه المؤسسة اختصاصات متعددة تمكنها في إدارة شؤونها، منها( حفظ الأمن والنظام داخل القبيلة وبينها وبين القبائل الأخرى، في حل النزاعات والخلافات بين الأفراد والجماعات على هدى القضاء الأهلي المبني على مبدأ سيادة القانون العرفي( الاعراف والتقاليد الاجتماعية)، ومن حيث البناء التنظيمي تتدلى هرميا من أعلى القمة إلى أدناها وتختلف مسمياتها من مكان إلى آخر تعرف بزعماء القبائل( ملك، ناظر، مقدوم، سلطان، مك، ديمنقاوي…الخ) ثم الوسيط( الشرتاي) ثم يليه العمدة أو الفرشة…الخ) الذي يشرف على مجموعة من المشايخ ثم على المستوى القاعدي(القرية أو البادية) الشيخ الذي يشرف بدوره على أرباب الأسر، فشيخ القبيلة يعد حلقة الوصل ما بين مجتمع القبلية والعمدة، فجميع هؤلاء الزعماء يتفردون بصفات نادر ما تتوفر في الشخصية العادية مثل( الكرم، الشجاعة، الحكمة، سعة الصدر والأفق، والقدرة على اقناع الخصوم في القبول بالحكم الصادر – كاريزما الشخصية…الخ)، ولربما هذا سببا في أن يخلف أحد الأبناء أبيه وارث لمنصبه.
يقول خبراء الإدارة في هذا الصدد أن هؤلاء الزعماء ظلوا على مدى الأزمان والدهور في محل ثقة وتقدير وسط أفراد المجتمع خاصة القيادات التاريخية التي لا يعرف في مسيرة حكمها انحيازا لأحد سواء بعلاقة الرحم أو الولاء للحاكم ضد معارضيه، بل أنهم برعوا في القيام بالحياد ومصلحين لكل ما يتعلق بإصلاح ذات البين مع الخصوم، هذا ما جعلهم أن ينظر إليهم من قبل أتباعهم كرموز للقبيلة وزعماء لها، بل ويعتبرونهم جزءا لا يتجزأ من التركيبة الاجتماعية العامة في وسطهم المحلي فهم باقون وسط القبيلة مع ذويهم وعشيرتهم ما بقوا أحياء ولا يتم تغييرهم إلا في ظروف إستثنائية خاصة ك( العجز، ارتكاب الجريمة تمس الشرف والأمانة…الخ) فهؤلاء الزعماء عرفوا بدورهم الرائد في إدارة الشئون العامة لمجتمعاتهم القبلية.
فمؤسسة الإدارة الأهلية كانت ولاتزال أعرافها في حل القضايا أساس لمعظم المواطنين في السودان على مر التاريخ، وأن فلسفتها الإدارية – أعرافها – راسخة في إرساء دعائم السلم الاجتماعي وتوطيد أواصر المحبة والاحترام المتبادل والتسامح المفضي إلى سيادة ذاك السلام الاجتماعي ونشر ثقافته بين مختلف القبائل، كما أن اقتسام الموارد في هذه المجتمعات تقوم على أساس الحقوق والواجبات التي أقرتها أعرافها وتقاليدها الموروثة.
مع فجر استقلال السودان لعب زعماء الإدارة الأهلية دورا سياسيا وطنيا خالصا سجلته دفاتر التاريخ فقد شارك بعض منهم في الجمعية التأسيسية(البرلمان) عام 1955م من ضمنهم الناظر/ عبدالرحمن دبكة ناظر عموم قبيلة بني هلبة وهو المعروف عنه أنه أول من نادى باستقلال السودان من مقعده داخل الجمعية التأسيسية.
استمرت هذه المؤسسة في أداء رسالتها ومهامها بكل تجرد ومسؤولية، كما ظل قياداتها محافظون على سلطاتهم القضائية والإدارية والمالية، ولا تنحصر حدود مسؤولياتهم هكذا فحسب، بل امتدت لمساعدة جميع الأنظمة الوطنية الحاكمة المتعاقبة في حدود سلطاتهم كالعمل على تحصيل الضرائب بأشكالها المختلفة( العطيان، القطعان….الخ)، وجباية الزكاة.
يقول المحللون في مجال الإدارة والحوكمة أن السودان عرف في تاريخه القديم والحديث ثلاثة نماذج من حكم الإدارات الأهلية، هي: النظام الإداري الأهلي المحارب: كان ذلك في فترات حكم السلطنات وعهد دولة المهدية، النظام الإداري الأهلي الراعي للسلام الاجتماعي في فترة الاستعمار البريطاني (1922-1956) والنظام الإداري الأهلي المحارب من جديد(1956- حتى الآن).
يذكر خبراء الإدارة العامة في السودان بأن أسباب ضعف وتراجع دور الإدارة الأهلية تعود إلى عدة عوامل، منها: ظهور فئة الإنسان الانتقالي المتمرد على تراث وثقافة الأجداد، القادة الثوريون الذين يأتون على سدة الحكم عبر فوهة البندقية(الحكومات السلطوية) والحروب الأهلية، كما أن معاداة جهاز الإدارة الأهلية من قبل قادة الحركة الوطنية بعد الاستقلال كان من أكبر المهددات التي واجهت الإدارة الأهلية في تاريخ مسيرتهم العملية.
في هذا السياق يؤكد الدكتور فائز عمر جامع المدير السابق لكرسي اليونسكو للسلام في السودان بالقول أن أول خطوة قامت بها الحكومات الوطنية تجاه نظام حكم الإدارة الأهلية هو التخلص من نفوذ وصلاحيات زعمائها والتقليل من أهمية دورها، لأن هؤلاء الحكام يعتقدون في نظرهم أنهم صنيعة الاستعمارية يجب التصدى لهم، وأما على مستوى الحكومات الوطنية تعد حكومة الفريق ابراهيم عبود الانقلابية(1959-1964) أول من قام بتفتيت مؤسسة الإدارة الأهلية حيث شكل لجنة بقيادة القاضي محمد أبو رنات بغرض تنظيم العلاقة بين المركز والأطراف، وصدر فيما بعد قرارا نص فيه على تفكيك مؤسسة الإدارة الأهلية والعمل على الحد من دور قياداتها ورموزها تحت إشراف قاضي المحكمة في المدن وقبل أن يوضع قرار التفكيك موضع التنفيذ، تمكنت ثورة أكتوبر المجيدة من الإطاحة بحكومة الفريق عبود في عام 1964، وعلى إثر ذلك أتت الفرصة للشرائح الرادكالية لتحكم السودان لمدة عام واحد بحكومة انتقالية، وسرعان ما أصدرت تلك الحكومة قرارا بحل الإدارة الأهلية عندما تقدم الوزير الشفيع أحمد الشيخ ممثل العمال في حكومة سر الختم خليفة بمذكرة لمجلس الوزاء في حكومة أكتوبر الأولى الذي جاء في حيثيات المذكرة بأن نظام الإدارة الأهلية نظام متخلف صنع بواسطة القوى الامبريالية الاستعمارية الذي كان الغرض منه هو ضرب واضعاف الحركة الوطنية، ولكن قبل أن يكتمل إجراءات الحل أنتهى عمر الحكومة الانتقالية.
حتى جاءت حكومة مايو الانقلابية بقيادة الفريق جعفر نميري عام 1969 بطلائع الاشتراكيين إلى سدة الحكم الذي صدر في عهده قانون الأراضي غير المسجلة لسنة 1970 الذي بموجبه تم تحويل ملكية الأراضي للدولة بما فيها الحواكير، ثم صدر في العام نفسه قرارا قضي بحل الإدارة الأهلية في السودان إلا إنها ظلت فاعلة في أطراف السودان لا سيما في غرب السودان.
وبعد سقوط نظام مايو أخذت الإدارة الأهلية تستعيد دورها المعهود خاصة فى فترة الديمقراطية الثالثة التي أعقبت انتفاضة أبريل عام 1985 في عهد حكومة رئيس الوزاء الراحل الصادق المهدي وذلك عندما قام مجلس الوزراء في عام 1987 بتكوين لجنة وزارية بغرض وضع تصور للوضع الجديد لنظام الإدارة الأهلية في السودان، إذ بموجبه أصدر قرارا قضى بإعادة الثقة في الإدارة الأهلية بعد أن وافق عليها المجلس بناء على توصيات اللجنة التي أوصت بضرورة الرجوع إلى النظام الإداري الأهلي.
وبمجيء نظام الجبهة الإسلامية وإستيلائها على الحكم بانقلاب عسكري بقيادة الفريق عمر البشير عام 1989م سرعان ما تبدلت سياساته تجاه الإدارة الأهلية بصورة مختلفة عما جرت في عهود الأنظمة السابقة إذ عمد النظام على إحداث سياسة الإحتواء والضم لزعماء الإدارات عرفت بسياسة التمكين(شراء الذمم والولاءات….الخ) وقد أدت تلك السياسة إلى اضمحلال دور هذه المؤسسة العرفية العريقة بتقديم رسالتها السامية وجعلها أحد أزرع وتوابع النظام وأداة فعالة لنصرة السياسة من أجل تحقيق الكسب السياسي لنظام حكم الدولة، وعلى صعيد متصل قام النظام في عام 1995 بعقد مؤتمرا للنظام الأهلي وذلك بهدف تقنين عمله وتقييد دوره وصدرت من خلال المؤتمر عدد من الموجهات من بينها ما ورد في الفقرة(السابعة) صفحة(2) بالقول:( لا تنحصر نظم القبيلة على قيم الأعراف والتقاليد الاجتماعية، بل يجب ان ينفتح على نفحات تجديد الدين لبسط ولائها نحو إخوة الدين لترشيد وضبط نظمها وفق تعاليم الدين وقيمه، فالراعي للقبيلة لا يهتم بأمر رعيته ومعاشها فحسب، بل يسعى لإمامتها في شعائر الدين وعلومه لتكون أنموذجا يحتذى به في القيم والأخلاق والتدين)، ويعد هذا المؤتمر حسب المراقبون نقطة مفارقة لدور زعماء الإدارة الأهلية في السودان، لأنه لم يعد يحصر دورهم فقط في حفظ الأمن والنظام وحماية الأرواح والممتلكات داخل مجموعتهم المنوط بها بسيادة السلام الاجتماعي فقط، بل أصبح يمثل دور القائد الرسالي الذي صار يبشر بمشروع التوجه الحضاري، بل وأنه صار يعمل جاهدا لتحقيقه وسط أتباعه من اجل كسب سياسي كوسيلة للحصول على السلطة والثروة وليس القيام بدوره المعهود، وفي هذا المنحى يقول: الدكتور يوسف تكنة في كتابه الموسوم بصراع السلطة والموارد أن الجملة الأخيرة تعني بوضوح أن الزعيم الإداري الأهلي لم يعد في نظر نظام الجبهة الإسلامية معني بالدرجة الأولى بحفظ الأمن والنظام وحماية الأرواح المفضي إلى المحافظة على السلام الاجتماعي وسط مجموعته فيما بينهم وبين المجموعات الأخرى، بل صار دوره يمثل دور القائد الرسالي الذي يبشر بالتوجه الحضاري بنص اللائحة والقانون والعمل على تحقيقه وذلك بقيادة حركة التجديد الديني والسياسي الذي جاءت الحركة الإسلامية من أجله، وكنتيجة لتداعيات ومقررات ذلك المؤتمر أن غالبية زعماء الإدارة الأهلية أصبحوا أعضاء في نظام المؤتمر الوطني ولكن بدون أتباعهم الذين تفرقت بهم السبل أيدي سبأ، في المقابل توجد هناك عدد من القيادات الأهلية رفضوا الإغراءات وقاوموا التخويف والترهيب بكل شجاعة على الرغم من تعرضهم لحملات الاستهداف الممنهج والمضايقات بجانب تجريدهم من مناصبهم في أحايين أخرى.
وحتى تستعيد الإدارة الأهلية موقعها الريادي ودورها المعهود المتمثل في حفظ الأمن والنظام والمحافظة على السلام الاجتماعي، يجب على قادة العمل الوطني الحادبين على مصلحة الوطن التخلي والابتعاد عن تسييس دور الإدارة الأهلية والعمل على إخراجها من حلبة الصراع السياسي حتى تعود لسيرتها الأولى كحاكم عادل بين أتباعه، بل يكون أنموذجا لأسلافه – الحاكم الذي لا يميل لطرف ضد الآخر ولا أن يكون ذراعا أو آلة لتنفيذ أجندة وسياسة الحزب، كما يجب على صناع القرار وقيادات الدولة بإعادة إعتماد التشريعات والقوانين التي كانت سائدة عند فجر الاستقلال، وهي تلك التشريعات التي جعلت من دور المؤسسة الأهلية الحياد في القطع بالحكم في كل الظروف وهي أساس العدل لا الانحياز كما فعلت بها الأنظمة، كما يجب أن تتخلى الدولة عن الأنموذج الإداري الأهلي المحارب الذي يقود القبيلة الى الاستنفار ثم القتال حتى لا تتردى أكثر مما تراجع السودان بعد أن تسلق أولى عتبات النمو إلى همجية القرون الوسطى المظلمة.
بناء على ما تقدم ذكره.
هل يستطيع زعماء الإدارة الأهلية أن تنأى بأنفسهم بعيدا عن ممارسة العمل السياسي حتى يعيدوا للمؤسسة دورها المعهود وبريقها الراعي للسلام الاجتماعي بدلا عن الخوض في الصراعات السياسية؟!!!

الجمعة ١٣ أكتوبر ٢٠٢٣م

مقالات ذات صلة

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x