مقالات الرأي

قراءة وتعليق في مقال د الوليد مادبو (مستقبل السودان الباهر والإشكال الماثل) (1)


بقلم: الصادق علي حسن

الدكتور الوليد آدم مادبو له مساهمات معتبرة في تعلية المعارف وممارسة التوعية والتثقيف بصورة راتبة من خلال كتابة المقالات المقروءة والكتب المنشورة والمشاركات في الورش والمنتديات والندوات الثقافية والسياسية وظلت مساهماته تجد رواجا لدى المهتمين بالشأن العام والمراقبين بالداخل والخارج ، لما امتازت أطروحاته بعمق التناول وسعة ونضوج الرؤية ، ظللت اتلقى مقالات د الوليد الراتبة من عدة مصادر كما وأجدها متداولة في القروبات، قد أتناول بعض هذه المقالات الهامة لاحقا لإثراء النقاش حول المواضيع المرتبطة بسودان ما بعد الحرب، ولكن في هذا المقال وما يليه ساستعرض وأعلق على بعض مما جاء في مقاله بعنوان مستقبل السودان الباهر والإشكال الماثل لإبداء بعض الملاحظات حول بعض ما ورد بمقترحاته حول كيفية تدارك الأزمة الدستورية بما يفتح الباب للحوار حول بنية الدولة وهيكلها المفضي إلى سلام مستدام ويرى د الوليد بعد ان تناول بعض المآخذ على التجارب السابقة (ومن الأفضل لقارئ هذا المقال ان يعود للمقال لقراءته بالكامل والذي سيجده بالبحث في محرك جوجل) ان كتب ما نأخذ منه بالنص الآتي { يلزمنا ان نرجع إلى دستور ١٩٧٤ الذي لا يتضمن علمانية سافرة (كالتي يتحدث عنها الحلو) ، كما لا يجعل لمجموعة معينة وصاية أخلاقية على بقية المجموعات (ما يوصف بالدوغمائية المقننة التي كانت تمارسها المجموعات العقائدية كافة والإسلاميين خاصة) يركز هذا الدستور على السلطة الرئاسية التي يحتاجها السودان في السنوات القليلة القادمة كي يتفادى تداعيات الحرب الأهلية ، إذ لا بد من مركزية قابضة تحول دون تلاعب قادة الحركات والسياسيين الآخرين بمصائر الأقاليم }، د الوليد أقترح العودة لدستور ١٩٧٤ بحيثيات ذكرها ، ومع وجاهة الأسباب والمبررات التي ساقها لتعزز رؤيته ولكن بالضرورة قراءة رؤيته تلك ومدى اتساقها مع مشروع تأسيس الدولة السودانية ومن دون إغفال للظروف الإستثنائية الحالية التي صارت تهدد وجود الدولة في حد ذاتها ومراعاة مقاصد ان الحكمة في ظروف وأحوال معينة قد تكون مقدمة على الصحة ، لذلك نلقي الضوء على الوضع الدستوري للدولة السودانية ثم نبحث في مدى إمكانية اللجوء إلى السلطة القابضة للحفاظ على الدولة ام ان الحفاظ عليها قد لا يتحقق إلا من خلال مشروع التأسيس وماهية المآخذ على مشروع التأسيس وهل صارت الديمقراطية(كمطلب) ، سابقة لأوانها.
مشروع تأسيس الدولة السودانية ١٩٥٥م :
من الأخطاء المتوارثة جيلا عن جيل منذ الإستقلال إغفال حقيقة ودور المستعمر الإنجليزي في صياغة الشخصية السودانية وفصلها عن الشخصية المصرية ، كما لم يسع جيل الإستقلال السعي الجاد لإقرار الدستور الدائم للبلاد ، ومرت على البلاد عقب استقلالها ثلاث تجارب ديمقراطية لم تتمكن في خلالها من إنجاز الدستور الدائم من داخل جمعية تأسيسية تنتخب لغرض وضع الدستور الدائم للبلاد أو حتى الحفاظ على مؤسسات دورة إنتخابية كاملة واحدة (مدتها فقط أربع سنوات) وعقب كل ثورة مجيدة على إنقلاب عسكري تدخل البلاد في تجربة ديمقراطية هشة وقبل ان تكمل دورتها يتم الإنقضاض عليها كما حدث عقب ثورتي اكتوبر ١٩٦٤و أبريل ١٩٨٥م، اما وعقب ثورة ديسمبر ٢٠١٨م المجيدة فقد حدث التفريط وخرجت قوى الحرية والتغيير عن المسار الصحيح لإستعادة الحياة الدستورية للبلاد وأنتجت تجربة مشوهة تعاني البلاد من نتائجها السالبة حتى الآن ، بالرجوع إلى التطور التشريعي بالبلاد فقد كان نتاجا لتوصية اللجنة التي تكونت برئاسة القاضي الإنجليزي استانلي بيكر بعضوية عدد من الخبراء الأجانب والوطنيين السودانيين ، وبعد دراسة التجارب السودانية والمجلس الإستشاري لشمال السودان اوصت هذه اللجنة لحاكم عام السودان السير روبرت هاو بإنشاء برلمان ليمارس الحكم الذاتي ويقرر في مصير البلاد وعلى ضوء ذلك صدر القانون مستوفيا شكله الإجرائي وتم إنتخاب البرلمان في نوفمبر ١٩٥٣م من السودانيين في إنتخابات مراقبة دوليا وأجاز ذلك البرلمان القواعد التأسيسية الخمس للدولة السودانية ،أربع قواعد منها أُجيزت في يوم ١٩ /١٢ /١٩٥٥ والخامسة في يوم ٣١/ ١٢/ ١٩٥٥، وحددت القواعد الخمس المذكورة شكل الدولة وجغرافيتها وشعبها واستحقاق جنوب السودان للفيدرالية والنظام الديمقراطي لحكم الدولة وان يتكون من مجلسين ، مجلس سيادة مدني يتكون من خمسة أعضاء ومجلس وزراء مدني وإن يتم إنتخاب جمعية تأسيسية من كل اقاليم السودان لوضع الدستور الدائم للبلاد ، ومن الواضح ان لجنة القاضي استانلي حينما اقترحت كيفية تشكيل البرلمان الذي سيبت في مصير البلاد وضعت نموذجا لتجربة فريدة عن بقية تجارب مستعمرات بريطانيا العظمى الأخرى وذلك بكفالة مباشرة تقرير مصير دولة السودان لتنال إستقلالها من داخل البرلمان وتؤسس لديمقراطية حرة في بلاد تذخر بتعدد المكونات الثقافية والعرقية، كما وان المُنقب في مسيرة الحركة الوطنية يجد ان المستعمر الإنجليزي قد أسس نظاما إداريا متطورا بالبلاد وانشأ كلية غردون التذكارية في بداية عهده لتخريج الإداريين والفنيين وتأهيلهم والتي تحولت إلى جامعة الخرطوم ، وساعد المستعمر الإنجليزي في نشأة وتطوير الصحافة والرياضة ورعاية الثقافة وتعزيز ممارسة الأحزاب السياسية السودانية ومشروعات التنمية الإقتصادية وابتعاث الكوادر للتأهيل في إنجلترا، ولم يكن الإستقلال قد حدث بمجرد اقتراح مقدم من داخل البرلمان قدمه الشيخ عبد الرحمن دبكة نائب دائرة بقارة غرب وقام بتثنيته الشيخ جمعة سهل من كردفان ثم تمت الموافقة عليه بالإجماع، ولكن كانت الإجراءات تسير بخطوات مدروسة وإشراف من المستعمر الإنجليزي، بل حتى بعد ان استقال الحاكم العام نوكسب هلم في ١٢/١٢/ ١٩٥٥م آخر حاكم عام للسودان من منصبه ودعا السودانيين في حفل وداعه لتخيير افضل الوسائل لحكم بلادهم وممارسة الديمقراطية، وقد أعلنت إنجلترا عدم رغبتها في تعيين حاكم جديد للسودان وذلك للتسهيل للنواب بالبرلمان والأحزاب للإتفاق على إعلان إستقلال البلاد ، وظلت الأجهزة الإدارية الأخرى التي تدير البلاد تساعد السودانيين في تحقيق التراضي على الإستقلال حتى قبل نواب جنوب السودان بالبرلمان بالتصويت لإستقلال السودان مقابلة استحقاق الجنوب للفدرالية وتحقق الإستقلال بالإجماع التام ، ووافق نواب الجنوب بالتصويت لإستقلال البلاد بعد نيلهم لاستحقاق الفدرالية ثم تم الإستقلال والتصويت بالإجماع من داخل البرلمان حتى كلمات مقترح الإستقلال وتثنيته اختيرت بعناية لما يشير لوحدة البلاد وعظمة الأمر ، ولكن ومن أكبر الأخطاء التي ارتكبت عدم الإستفادة من دروس تجربة المستعمر الإنجليزي في تأسيس الدولة السودانية، والباحث يجد ان المستعمر الإنجليزي هو من قام ببناء مشروع الدولة وتأسيس نظامها الإداري والتنموي ، ولكن وفي عام ١٩٦٥ وعقب ثورة أكتوبر المجيدة ظهرت ولأول مرة محاولات النكوص عن استحقاق الفدرالية لجنوب السودان وخرجت مسيرات ثورة أكتوبر ترفع شعارات لافدرالية لشعب واحد (no federation for one nation) ولم يلجأ الجنوبيون للمحاكم للمحافظة على الإستحقاق الدستوري المكفول لجنوب السودان ولكنهم أسموا ذلك اليوم باليوم الأسود، وأكتفوا بالصوت الجهير والقول يوما ما سينفصل جنوب السودان ،وقد تحققت تلك النبوة المبكرة بعد خمسة عقود من الزمان ، إن عدم التمسك بقواعد التأسيس الخمس المجازة في ١٩٥٥م يعني تلقائيا التخلي عن مشروع تأسيس الدولة السودانية وينتج عن ذلك التخلي إعادة الحال لما كان عليه قبل التأسيس، لذلك مع وجاهة الأسباب التي ذكرها د الوليد في مقترحه بالأخذ بدستور ١٩٧٤ وبموجبه تأسيس سلطة رئاسية قابضة قد تحتاجها البلاد خاصة بعدما طالتها ممارسات السياسيين والحركات الطائشة وتعرضت للخراب والدمار بفعل الحرب العبثية وفقدت أجهزتها الإدارية ونظم مؤسساتها ومرافقها العامة ، لكن التخلي هكذا عن مشروع التأسيس سيعيد تلقائيا المكونات السابقة لنشأة الدولة السودانية قبل إجازة مشروع دولة ١٩٥٥م ، فعلى سبيل المثال انضمت سلطنة المساليت للسودان بموجب إتفاقية قيلاني سنة ١٩١٩م وكفلت تلك الإتفاقية حق الإستفتاء لشعب سلطنة المساليت وذلك عقب مرور ٧٥ عاما من بدأ سريان الإتفاقية بممارسة حق الإستفتاء وتقرير المصير ، ومضت المدة المقررة واندمجت خلالها مكونات سلطنة المساليت تماما في الدولة السودانية ولم تبرز اي اصوات لتطالب بالإستفتاء ولكن مؤخرا تحدث السلطان سعد بحر الدين سلطان المساليت من انجمينا عقب أحداث الجنينة ولجوء غالبية سكان المدينة ومناطق أخرى بولاية غرب دارفور إلى دولة تشاد بانه سيشرع في مراجعة بنود إتفاقية قيلاني وإن ما يجمعهم بالسودان الأرض ، كما وفي عدم التمسك بمشروع التأسيس ما يعيد الحال لما كان سائدا قبل مقتل السلطان علي دينار في ١٩١٦ وفي مناطق السودان الأخرى ستظهر مطالبات بالحقوق التاريخية مما يعني تراجع الوحدة الوطنية، إن الأوضاع الحالية بالبلاد قد لا تصلح لإنتاج نظام ديمقراطي سليم ومستقر كما وفي ظل الظروف والأوضاع الإستثنائية عقب الحرب قد تحتاج البلاد لسلطة قابضة بالفعل وهذا قد يتطلب إعمال الحكمة التي قد تقدم على الصحة بتكوين حكومة تصريف أعمال لفترة طويلة مخولة بصلاحيات السلطة القابضة التي تتعامل بصلاحيات وأسعة لتلافي آثار الحرب والحفاظ على موارد البلاد ووحدتها وإنهاء حالة تعدد الجيوش وتأميم تنقيب الذهب والمعادن الأخرى والإتصالات ،ولكن بالضرورة بخارطة طريق لضمان الرجوع إلى مشروع التأسيس حتى لا تبرز معالم دويلات داخل الدولة السودانية . نواصل

مقالات ذات صلة

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x