مقالات الرأي

الخيارات الدستورية في تكوين حكومة مؤقتة في زمن الحرب


بقلم/ د. سامي عبد الحليم سعيد


هذه المحاولة هي جزء من جهد بحثي، قيد الكتابة، ظللت أقوم به ضمن إطار التفكير الدستوري لملء الفراغ الخاص بغياب السلطة التنفيذية على صعيد تقديم الخدمات و الامن في ظل ظروف الحرب و الظروف الاستثنائية. و إكتسبت الكتابة في هذا الموضوع أهمية بعد ان تعالت الاصوات داخل المجتمع المدني و مراكز البحث منادية بضرورة تكوين حكومة إنتقالية ( حكومة طوارئ او حكومة تصريف أعمال و غير ذلك). و أخيراً نادت بعض الجهات السياسية بضرورة تبني صيغة من صيغ الحكومات المؤقتة في ظل الظروف الراهنة التي تمر بها البلاد. حتى الان لا توجد رؤية دستورية متكاملة، و غالبا ما تغيب عن المطالبين بتلك الحلول حقيقة عدم وجود إطار قانوني واضح ينظم علاقات حكم، و كذلك من الصعب تحديد الاطار الدستوري الذي يحكم و يراقب السلطات القائمة حالياٍ. سيكون هذا المقال التحليلي عبارة عن إستعراض للخيارات الممكنة في تكوين حكومة مؤقتة، و تحديد الاطار القانوني الذي ينظم تلك الخيارات في ظروف الحروب و الاضطرابات السياسية، التي إستخدمتها التجارب الدستورية في البلدان المختلفة، أو حتى تلك التي إستخدامها السودان في وقت سابق. و يشمل البحث في تلك الخيارات، دراسة الشروط الدستورية، و الظروف السياسية التي تستدعي تكوين الحكومة المؤقتة، مع إستعراض مختصر للتجارب التي إستخدمت النموذج قيد الدراسة. فيما يلي، نبحث النماذج التالية: حكومة الطوارئ، و حكومة الانقاذ الوطني او حكومة الوفاق الوطني، و حكومة تصريف الاعمال، و حكومة المنفى، و حكومة الظل، و الحكومة التي تتكون بموجب الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة. و ذلك وفق التفصيل أدناه:
أولا: حكومة الطوارئ The Government of Emergency :
في أحوال متباينة، تتعرض الحكومة في النظم البرلمانية و الرئاسية الى الحل بواسطة السلطة ذات الاختصاص، و في ذلك قد يتم حل الحكومة أما بواسطة البرلمان كما في ظل النظام البرلماني، أو بواسطة رئيس الدولة كما في حالة النظام الرئاسي. و في هذا الصدد تسعى السلطة ذات الاختصاص في تكوين حكومة طوارئ للقيام بالمهام العجلة إلى حين تكوين حكومة وفق الاجراءات الدستورية المعهودة. و تتعدد اسباب حل الحكومة، كما تتعدد أسباب تكوين حكومة الطوارئ.
الثابت ان الظرف الطارئ هو مناط تكوين حكومة الطوارئ. في خضم الظروف الاستثنائية التي واجهتها الدول في العالم، بما في ذلك ظروف الحرب العالمية الثانية، والحرب الباردة، طورت مجموعة من الخبراء، والمسؤولين العاملين في مكاتب حكومية مرتبطة بمراكز صنع القرارات في المستويات العليا للدولة، فهمًا جديدًا للأمة باعتبارها مجموعة معقدة من الأنظمة الحيوية والهشة و التي بسبب عدم فعالية إدارتها قد تقود إلى إنهيار الدولة أو زولها. لذا عكفوا على اختراع الأجهزة التقنية والإدارية للتخفيف من ضعف الأمة ، ونظموا شكلاً مميزًا من حكومة الطوارئ التي من شأنها أن تجعل من الممكن الاستعداد لاي ظروف طارئة، و يمكنهم من إدارة الدولة في ظل الأحداث الكارثية المحتملة. و بالتالي كانت (حكومة الطوارئ) مفهوم تم توليفه بواسطة مراكز صناعة القرارات في الدولة لمواجهة ظروف ضعف الدولة من الداخل و حمايتها من الانهيار.
و بالتالي، تتأسس حكومة الطوارئ، لمواجهة ظروف إستثنائية. اذ تلجأ الحكومات في ظروف الكوارث الطبيعية و الحروب، إلى تغيير أهداف و برامج الحكومة، بحصرها في مواجهة الظروف الطارئة، و بالتالي يتم تغيير اسم الحكومة الى اسم حكومة الطوارئ، لكونها تتولى مهام الطوارئ بشكل اساسي. و في هذه الحالة قد تصدر قوانين و تدابير مؤقتة تساعد حكومة الطوارئ في القيام بمهامها.
و مسالة حل الحكومة القائمة، كلياً او جزئياً، و تكوين حكومة طوارئ، هي مسألة دستورية يكون من السهل مباشرتها و مراقبتها بموجب نصوص دستورية واضحة، و بخلاف ذلك تكون الاجراءات تفتقر الى الاسناد الدستوري. هذا الافتراض يحتم وجود حكومة بالفعل عند حدوث حالة الطوارئ . يتم تكليف حكومة الطوارئ بواسطة سلطة سيادية للقيام بمهام المرحلة الطارئة، و أحياناً يتم تكليف وزراء و وكلاء بالوزارات للقيام بمهام حكومة الطوارئ.
و تحديد أهداف حكومة الطوارئ، و تحديد آليات مراقبتها من الامور المهمة. في النظم البرلمانية، يقوم المجلس التشريعي بدور مهم في مراقبة حكومة الطوارئ ، حيث ان الاساس في تلك النظم انه :”لا سلطة بدون مسؤولية” بحيث لا يجوز ان تستمر الحكومة في اختصاصاتها من دون الرقابة على اعمالها من قبل البرلمان والذي حسب النظام البرلماني يكون مختصا بمراقبة اداء السلطة التنفيذية.
نصت الفقرة (ب) من المادة 211 من دستور السودان عام 2005 على انه يجوز لرئيس الجمهورية، بموافقة النائب الأول، أثناء سريان حالة الطوارئ أن يتخذ بموجب القانون أو الأمر الاستثنائي، أية تدابير لا تقيد، أو تلغي جزئياً، أو تحد من آثار مفعول أحكام الدستور واتفاقية السلام. و لكن يجوز له، ضمن أمور أخرى، أن يقوم بـ “حل أو تعليق أي من أجهزة الولايات، أو تعليق أي سلطات ممنوحة للولايات بموجب هذا الدستور، ويتولى رئيس الجمهورية بموافقة النائب الأول، (تصريف مهام تلك الأجهزة)، ويمارس السلطات أو يقرر الطريقة التي يتم بها تدبير شئون الولاية المعنية”. و من هذا النص نفهم ان لرئيس الجمهورية سلطة قيادة حكومة تصريف أعمال، أثناء فترة الطوارئ. و على العكس من ذلك، نصت المادة 41 من الوثيقة الدستورية لسنة 2019 على سلطة مجلس الوزراء في إعلان حالة الطوارئ في البلاد. و قررت المادة على إنه “و في حالة وصول الحالة الاستثنائية درجة تهدد سلامة الامة، يجوز لمجلس الوزراء بالتشاور مع مجلس السيادة، تعليق جزء من وثيقة الحقوق الواردة في هذه الدستور”. أجازت الوثيقة الدستورية لسنة 2019 تعليق جزء من وثيقة الحقوق، و لكنها لم تتطرق الى تعليق الاحكام الدستورية المنظمة لعمل المؤسسات الدستورية. و من ذلك، نجد أن المادة لم تمنح بصورة واضحة رئيس الوزراء سلطة تكوين حكومة طوارئ و لا حكومة تصريف الاعمال.
و لما كان لا يوجد نص صريح، فمن الممكن الاسترشاد بنصوص دستورية دالة للمعني المقصود او تساعد في تحقيق الهدف السياسي المعني. من بين تلك النصوص تلك الخاصة بإعلان حالة الطوارئ A state of Emergency في البلاد، وهو نص دستوري راسخ في كل الدساتير السودانية منذ الاستقلال، كما هو راسخ كذلك في معظم دساتير العالم. فالحكومة التي تقوم بالمهام الاستثنائية و الطارئة تكون وفق المعني السياقي، هي حكومة طوارئ.
عليه نخلص انه لا توجد في الدستور السوداني أي إشارة لا من قريب أو من بعيد إلى حكومة طوارئ وإنما تحدث الدستور عن حالة الطوارئ كما بينا في أعلاه.
هل من الممكن تكوين حكومة طوارئ في السودان:
في الظروف السياسية الراهنة، و مع إستمرار الحرب، و مع غياب الاطار الدستوري المنظم لعملية تكوين حكومة طوارئ مدنية، سيكون من الصعب إنشاء حكومة مدنية فعالة و كفؤة و قادرة على مقابلة إلتزامات الدولة في تقديم الخدمات العامة كما ينادي بذلك بعض أصحاب المبادرات المدنية لايقاف الحرب و إستعادة المسار الديمقراطي في السودان. و في جانب لاحق من هذا المقال سنتطرق للمحددات الدستورية و السياسية و الامنية التي تقف حائلا دون تكوين حكومة مدنية تتولى مهام السلطة التنفيذية في زمن الحرب الراهنة في السودان. و القياس و تفسير العرف الدستوري، قد يقود إلى أن تقوم سلطة الامر الواقع بتكوين حكومة طوارئ تعينة و تساعده في إدارة مؤسسات الدولة أثناء الحرب، و بالتالي تصبح حكومة حرب، على تحشيد الارادات و الموارد و المواطنين من اجل تحقيق أهداف الحرب. و بالتالي، لا تحقق الغرض الذي نادت فيه المؤسسات المجتمعية في مبادراتها بتكوين حكومة طوارئ من كفاءات وطنية مستقلة عن الاطراف المنخرطة في الحرب.
ثانياً: حكومة تصريف الاعمال‘Caretaker Government’ :
(حكومة تصريف الأعمال) أو (حكومة تسيير الأعمال) هي حكومة مؤقتة ناقصة الصلاحية لأغراض تصريف أعمال الحكومة خلال فترة زمنية قصيرة. تنحصر مهام حكومة تصريف الاعمال في ملء الفراغ التنفيذي في الدولة، الناجم عن حل الحكومة او سحب الثقة منها بواسطة البرلمان. في بعض الأوقات قد تتأسس حكومة تصريف الاعمال خلال مرحلة لاحقة للانتخابات و سابقة لتكوين الحكومة عبر البرلمان، أو أي ظرف طاريء أخر حال دون تكوين حكومة جديدة، أو تاخرتكوينها. و مهام حكومة تصريف الاعمال تنحصر في المحافظة على استمرار العمل الروتيني للحكومة و تصريف اعمالها لا سيما الجانب المتصل منه بالخدمات العامة. ولا يحق لحكومة تصريف الاعمال البت في الامور السياسية او إجراء تصرفات دستورية حساسة. و نجد تطبيق تجارب حكومة تصريف الاعمال بشكل واضح في النظم الدستورية التي تتبع نظام الحكم النيابي او البرلماني. و قد شهدت لبنان تجربة واضحة لتكوين حكومة تصريف الاعمال، خلال الفترة السابقة.
ضمان استمرارية المرفق العام، هو المبرر لتكوين حكومة تصريف الاعمال في الظروف الاستثنائية. و ضمان إستمرار المرفق العام تقتضيها حقوق المواطنين و المصلحة العامة في تسيير المصالح العامة للمواطنين، و عدم تعطلها. من المهم أن يتحسب واضعو الدستور منذ البداية لضرورة وضع أحكام دستورية تسد الفراغ المحتمل في السلطة التنفيذية. فقد نص الدستور اللبناني على انه في حالة استقالة الحكومة او اعتبارها مستقيلة، تستمر في تصريف الاعمال، ريثما يتم تشكيل حكومة جديدة. نص الدستور اللبناني على ان الوزارات تكتفي فقط بالنشاط والذي يدخل في مفهوم تسيير الشؤون الضرورية ذات الصلة بالمصلحة العامة، دون اتخاذ قرارات من شأنها تحميل الحكومة مسؤولية سياسية. و تتكون حكومة تصريف الاعمال بموجب الدستور اللبناني من نفس الوزراء الذين انتهت مدة خدمتهم بحل الحكومة او بسحب الثقة، بحيث يتم تكليفهم بالاستمرار في تقديم الخدمات الإدارية اليومية و الروتينية لمدة قصيرة قد تصل الى شهر واحد او شهرين الى حين تكوين حكومة جديدة.
نصت المادة 38 من دستور السودان لسنة 1964 على تعريف مختصر و بسيط لمصطلح تصريف اعمال الحكومة، بالقول أن أعمال الحكومة هي كل عمل تنفيذي لحكومة السودان . يصدر مجلس الوزراء قواعد لتصريف أعمال حكومة السودان بأيسر السبل ولتوزيع هذه الأعمال بين الوزراء. و حسب النظام البريطاني، تصف عبارة “حكومة تصريف الأعمال” الحكومة التي تتولى منصبًا تخضع لقيود مؤقتة معينة على ما قد تفعله ، إما خلال فترة ما قبل الانتخابات ، أو لأنها ربما فقدت ثقة مجلس العموم. “حكومة تصريف الأعمال” ليست وضعًا حكوميًا رسميًا ، ولكن يتم تطبيق الوصف عادةً على مثل هذه الفترات.
لا نجد في التجربة الدستورية السودانية ممارسة واضحة لحكومة تصريف الاعمال كما أن الفقه الدستوري السوداني لم يقدم إية مساهمة يمكن الاطلاع عليها بهذا الخصوص. و لكن من خلال الوقائع قد نجد حكومات قد أنشئت لسد فراغ في السلطة التنفيذية و للقيام بمهامها على نحو طارئ. من بين ذلك ان يتم تكليف وكلاء الوزارات بالقيام بمهام الوزراء الى حين تشكيل حكومة، و هذا ما تم تطبيقه بعد عودة دكتور عبد الله حمدوك للحكومة الانتقالية بعد انقلاب 25 إكتوبر بعد توقيع الاتفاق السياسي بين قيادات الجيش و الدعم السريع مع رئيس الوزراء المعزول في نوفمبر2021 لاستمرار الفترة الانتقالية و إلغاء التدابير العرفية التي اتخذها قائد الجيش. و كان رئيس الوزراء قد كلف وكلاء الوزارات لتصريف اعمال الحكومة إلى حين تكوين الحكومة بتعيين وزراء جدد، و لكن الوثيقة الدستورية لسنة 2019 لا تنص على أحكام خاصة بتكوين حكومة تصريف الاعمال. و كذلك الوضع في بريطانيا، مهد الديمقراطية البرلمانية، لم نشهد فيها تقنين و تنظيم لحكومة تصريف الاعمال الا مؤخرا في عام 2011.
بحسب التجربة في المحيط العربي، نجد انه تجنّباً للأخطار والمحاذير التي تنشأ عن الفراغ في الحكم، جرى العرف الدستوريّ على أن يكلّف رئيس الجمهورية الوزارة المستقيلة بالبقاء في الحكم إلى أن تتألف الوزارة الجديدة، ويحدّد نطاق أعمالها بما يسمى “تصريف الأعمال العادية”. وقد أصبح هذا العرف مبدأ أصيلاً من مبادئ القانون العام واجب التطبيق في حالات فقدان الوزارة كيانها الحكوميّ المشروع، ومن بينها حالة الإستقالة. من التجارب الحديثة في ذلك، تجربة حكومة تصريف الاعمال في لبنان في عام 2022 بعد استقالة حكومة ميشيل عون. و تجربة حكومة تصريف الاعمال في العراق في نفس العام 2022 التي كان يقودها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي.
مهام حكومة تصريف الاعمال:
مهام حكومة تصريف الاعمال قد تكون محدد في الدستور – او في لائحة تنظيم اعمال مجلس الوزراء – و لانها ترتيبات مؤقتة – لا يجوز ان تتضمن مهام حكومة تصريف الاعمال أي مهام ذات طابع استراتيجي. لذا دائما ما تتلخص مهام حكومة تصريف الاعمال في الاعمال الإدارية و التنظيمية و الروتينية و لا تتعداها الى رسم السياسات المستقبلية الجديدة. ليس من حقّ حكومة تصريف الاعمال اقتراح القوانين، أو عقد القروض أو التعيين في المناصب العليا للدولة، أو الإعفاء منها، أو إعادة هيكلة الوزارات.
من المهم جداً ان ينص الدستور على إجراءات تكوين حكومة تصريف الاعمال، و على مهامها، و مدة إستمراريتها. و بموجب النصوص الدستورية المنشأة تكون حكومة تصريف الاعمال ناتجة عن تفويض من سلطة شرعية. و تقوم بممارسة مهامها بصورة واقعية و فعلية باعتراف المكونات الدستورية و المجموعات السياسية المسيطرة على مؤسسات الحكم في البلاد. و هي بالتالي سلطة دستورية كاملة.
هل يمكن تكوين حكومة تصريف أعمال في السودان:
برغم غياب النص الدستوري، و إستناداً على العرف الدستوري، و التطبيقات الفضلى السابقة، يمكن للسلطات السيادية في السودان ان تقوم بتكوين حكومة تصريف أعمال ذات مهام محددة و لفترة زمنية وجيزة و ذلك بعد إقالة الحكومة و وزرائها – كما شاهدنا بشكل واضح في التجربة اللبنانية الاخيرة. و في مثل تلك الحالة يتم تكليف وكلاء الوزارات بتسيير مرافق الدولة باسم حكومة تصريف الاعمال. و وصف حكومة تصريف الاعملال لا ينطبق على تكوين حكومة جديدة كاملة من كل الوزراء، لان حكومة تصريف الاعمال هو إجراء مستعجل و مؤقت.

ثالثاً: حكومة إنقاذ وطني National Salvation Government
تطرح التجارب الدولية نموذجاً آخراً لادارة البلاد لفترة مؤقتة، لتجاوز الازمة السياسية و الامنية في البلاد عبر تكوين حكومة (الإنقاذ الوطني)، و التي قد يطلق عليها أيضاً حكومة (الوفاق الوطني). تلتقي حكومة الانقاذ الوطني مع فكرة حكومة الطوارئ و حكومة تصريف الاعمال في أنها تتصدى للظروف الاستثنائية، و بالتالي هي حكومة مؤقتة ذات مهام إنتقالية و عاجلة. و لان فكرة حكومة الانقاذ الوطني، ليست مستقرة على إجراءات واحدة، فصارت معرض التباس عند النخب السياسية. مثل هذه الحكومة يتم اللجوء اليها في حالات عدم التوافق الوطني المقرون بالفوضى والاضطرابات وعدم الاستقرار السياسي، او عند وقوع انقلاب سياسي او عسكري، اذ تقوم هذه الحكومة بعملية منع انهيار كيان الدولة او ايقاف اسباب الانحدار نحو الحرب الاهلية. تتشكل الحكومة في مثل تلك الظروف من شخصيات مقبولة و نزيهة و كفؤة، و تتمتع بالاستقلالية عن الاطراف المتنازعة حول الحكم.
وقد يتم تكوين حكومة الانقاذ الوطني وفق ترتيبات دولية بواسطة مجلس الامن التابع للامم المتحدة، بموجب الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة، و قد تكون جزء من ترتيبات وطنية محضة، كان يتم تكوين حكومة الانقاذ الوطني كجزء من الاحكام العرفية التالية للانقلاب العسكري، أو تالية لاتفاق سياسي بين القوى السياسية بعد إنجاز حوار وطني أو إتفاقية سلام. إذن الاطار القانوني لحكومة الانقاذ الوطني يختلف عن الدستور الساري في البلاد، حيث لا توجد في الدساتير نصوص تنظم إجراءات تكوين حكومة الانقاذ الوطني. بل يصح القول، إن فكرة إنشاء حكومة إنقاذ وطني تتضمن إعتراف بفشل الدستور في تنظيم العلاقات الدستورية و الحفاظ على الاستقرار السياسي و الحفاظ على السلام في الدولة. و لهذا السبب يلجأ السياسيون الى بدائل من خارج الدستور لمعالجة الاوضاع السياسية في البلاد.
و يتوقف نجاح حكومة الوفاق الوطني، على عدة عوامل، من بينها التوافق بين أهم الفاعلين السياسيين، و توحد الارادة الارادة السياسية، بجانب تصميم الحكومة و كفاءتها. شهدت تجربة الحرب في البلدان العربية في سوريا و اليمن و ليبيا، محاولات لتطبيق فكرة حكومة الانقاذ الوطني، كخطوة إنتقالية نحو السلام و الاستقرار السياسي، و لكن كل تجربة من تلك التجارب لازمتها صعوبات جعلت من غير اليسيرتحقيق الاهداف الانتقالية في السلام و الاستقرار و التوافق السياسي. و بحسب التجارب الحديثة، تتكون حكومة الانقاذ الوطني او حكومة الوفاق الوطني، بموجب إتفاق وطني ناتج عن حوار شامل، و برعاية دولية، كما في حالة إتفاق الصخيرات Skhirat Agreement في التجربة الليبية، و التي إلتزم فيه الاتحاد الاوربي بدعم الحكومة و إسنادها الى حين إنجاز أهدافها الانتقالية.
تطبيق حكومة الانقاذ في السودان:
تطبيق فكرة حكومة الانقاذ الوطني في السودان، يتطلب تكوين إيجاد الاطار القانوني و السياسي، و التوافق حول إنتقال سياسي تقوده حكومة وفاق وطني. و من المهم إستصحاب تجارب الدول المشابهة في تطبيق حكومة الانقاذ في ظل ظروف الازمات السياسية.
رابعاً: حكومة المنفى Government in Exile :
حكومة المنفى هي احد نماذج الحكومات التي يتم تكوينها في ظروف إستثنائية. و حكومة المنفى لا يوجد لها سند دستوري، و تسعى لاكتساب شرعيتها من خلال الاستحواذ على القبول الشعبي و الاعتراف الدولي.
من الواضح، أنه يطلق عليها مصطلح (حكومة المنفى) لكونها تنشأ خارج الحدود الجغرافية للدولة بسبب إستيلاء مجموعة غير شرعية على السلطة في البلاد بقوة السلاح، بسبب الانقلاب العسكري او بسبب إحتلال البلاد بواسطة قوى أجنبية. و حكومة المنفى هي مجموعة سياسية تدعي أنها حكومة شرعية لدولة، لكنها غير قادرة على ممارسة السلطة القانونية وتعيش بدلاً من ذلك في بلد أجنبي. عادة ما تخطط الحكومات في المنفى للعودة ذات يوم إلى بلدها الأصلي واستعادة السلطة الرسمية. و تدعي حكومة المنفى امتلاكها إالشرعية و تمثيلها للشعب. و وفق ذلك تسعى حكومة المنفى الى تمثيل الدولة أمام المؤسسات الدولية، في محاولة لاكتساب الشرعية أمام المجتمع الدولي. و لكن ظلت حكومة المنفى محل نقاش على صعيد القانون الدولي، و لم تنجح الجهود في خلق إجماع بقبول فكرة حكومة المنفى . و هناك تطبيقات كثيرة لحكومات المنفي شهدها العالم منذ وقت مبكر، و تتميز الحكومات في المنفى المكونة على أراضٍ أجنبية، عن الحكومات التي يكونها المتمردين في الاراضي التي يسيطرون عليها، أن الاخيرة تعمل على جزء من أراضي الوطن و وسط جزء من المواطنين.
احدث مثال لحكومة المنفى، نجده في ماينمار و التي تم تكوين حكومة المنفى فيها عام 2021 و اطلق عليها حكومة الوحدة الوطنية لجمهورية اتحاد ماينمار. تم تكوين الحكومة عقب الانقلاب العسكري الذي حدث في 2021 و تكونت من أعضاء البرلمان المنتخبين وقتها . قام البرلمان المنتخب في ماينمار قبل الانقلاب في نهايات 2020 بتكوين حكومة المنفى و التي يطلق عليها The Committee Representing Pyidaungsu Hluttaw .
الدول التي رفضت الاعتراف بحكومة الانقلاب العسكري في ماينمار، منحت في المقابل حكومة المنفى الاعتراف، و منحتها الدعم السياسي بهدف محاصرة الانقلاب و نزع الشرعية عنه. و من ضمن ذلك، قامت الولايات المتحدة الامريكية و عدد من الدول الاوربية بالاعتراف بحكومة المنفى في ماينمار.
و من الامثلة بجانب حكومة المنفى في ماينمار 2021 حكومة المنفى لجمهورية أوكرانيا في عام 1919 بعد احتلال البلاشفة لاكرانيا ، و الحكومة البولندية في المنفى من عام 1939 و حتى 1945، و الادارة المركزية للتبت في المنفى المكونة 1991، و حكومة المنفى لتركيستان الشرقية المكونة في 2004 .
من حيث موجبات تكوين حكومة المنفى، أن تكون هناك حكومة مكونة بموجب إجراءات ديمقراطية و تحوذ على قبول الشعب. يتم حل الحكومة بطريقة غير دستورية بواسطة الجيش (عبر الانقلاب العسكري)، او بواسطة الاحتلال الأجنبي للبلاد و حل المؤسسات الدستورية و الاستيلاء على السلطة. ويفترض أن الحكومة السابقة للانقلاب العسكري او الاحتلال، تحتفظ بشرعيتها الدستورية بوصفها تتمتع بالقبول الشعبي و الدولي، و بالتالي تسعى لمواصلة مهامها و تمثيلها للشعب، من خارج حدود البلاد. و في ذلك إنكار و عدم إعتراف بسلطة الامر الواقع التي تقبض على مقاليد الحكم بعد قيامها بالانقلاب العسكري، و حلها للمؤسسات الدستورية. و هي بذلك تكون صورة من صور المعارضة السياسية للانقلاب العسكري.
تكوين حكومة منفى في السودان:
لا يوجد إطار قانوني و دستوري يحكم عملية تكوين حكومة منفى للسودان خارج السودان. و تكوبن حكومة منفى تخدم أغراض سياسية و دبلوماسية للمجموعة المعارضة لحكومة الامر الواقع، و هذا المقترح قابل للتطبيق خارج السودان، إلا أن نجاحها يتوقف بمستوى الاعتراف الوطني و الدولي بحكومة المنفى.
خامساً: حكومة الظل Shadow Cabinet :
تتكون حكومة الظل من كبار أعضاء حزب المعارضة الرئيسية والذين يكونون متحدثين اساسين باسم حزب المعارضة في مجالات حكومية محددة. يتم تعيين وزراء الظل من قبل زعيم المعارضة ويتولون عمومًا أدوارًا يتم تصميمها لمراقبة و رصد إداء وزارات الحكومة الفعلية. و تتمثل مهمة كل وزير في حكومة الظل، في فحص و رصد أداء الوزير الذي يقابله في الحكومة الفعلية، و تقديم المقترحات و السياسات البدايلة التي تنسجم مع إستراتيجية حزب المعارضة. لا يعرف تاريخ محدد لظهور مصطلح حكومة الظل، إلا أن المصطلح ظهر في أواخر القرن ال19 في بريطانيا حيث اعتاد أعضاء الحزب المهزوم في الانتخابات النيابية، الدعوة الى الاجتماع لقيادة المعارضة ضد الحكومة الجديدة، وفي الخمسينيات من القرن الماضي أصبحت حكومة الظل جزءا أساسيا من العملية السياسية في بريطانيا. و بالتالي، هي من الممارسات الديمقراطية التي أنتجها نظام ويستمينستر في بريطانيا.
برغم ما لها من دور فعال في تنشيط النظام الدستوري في بريطانيا، و في تطوير الممارسة الديمقراطية، و في توسيع نطاق الرقابة على أداء الحكومة، إلا أن حكومة الظل تتكون خارج المنظومة الدستورية – اذ هي تعمل في ظل وجود حكومة فعلية معترف بها في الدولة، و ليس بالضرورة ان تكون الحكومة الحالية التي تقوم بمهام الحكومة قد إستوليت على الحكم بطريقة غير شرعية. فقد تُنشأ حكومة الظل في عهد حكم دكتاتوري و قد تنشأ في عهد حكم ديمقراطي. و قد استخدم بعض الكتاب مصطلح حكومة الظل على حكومة ماينمار في المنفى، و لكن في إعتقادي ان الامر لا ينطبق على حكومة ماينمار في المنفى و التي تتخذ موقعها في واشنطن.
لم تشهد التجربة البرلمانية في السودان هذه الممارسة الديمقراطية بصورة معلومة و موثقة. إلا أن السودان قد شهد تجربة فريدة لتنظيم الشباب في هياكل و لجان لما اطلق عليه ( حكومة الظل السودانية)، و في ذلك كانت حكومة الظل نشاط معارض لحكومة الرئيس المخلوع عمر حسن البشير، ابتدره نشطاء نشطاء سياسيين و مهتمون بالشأن العام في عام 2011 بقصد مراقبة الأداء الحكومي و انتقاده من خلال تقارير دورية. لاحقاً، و بعد سقوط حكومة الفريق عمر حسن البشير في أبريل 2019، كون النشطاء في حكومة الظل حزب جديد بأسم حزب بناء السودان.
تطبيق حكومة الظل في السودان:
إن تجربة حكومة الظل، قابلة للتطبيق في السودان في ظل كل الظروف السياسية، و هي تشكل مستوى من مستويات المراقبة و الرصد، و المشاركة الفعالة في ممارسة حقوق المواطنة و في تحقيق الاهداف القومية.
سادساً: الحكومة التي يتم تكوينها بموجب قرار من مجلس الامن: حكومة كوسوفو:
هذا نموذج آخر لتكوين حكومة مؤقتة بعد إنتهاء الحرب. و هذا النموذج يتأسس بموجب قرار من مجلس الامن التابع للأمم المتحدة، بموجب سلطاته تحت الفصل السابع، من أجل صيانة السلم و الامن الدوليين. و كانت قد دخلت جمهورية يوغسلافيا في حرب أهلية طاحنة منذ مطلع تسعينات القرن السابق. في 1999 اصدر مجلس الامن قراره S/RES/1244 (1999) القاضي بسحب كل القوات اليوغسلافية و الصربية من اقليم كوسوفو و الاعلان عن نشر قوات الامم المتحدة في اقليم كوسوفو و تم تكوين إدارة من الامم المتحدة لادارة إقليم كوسوفو ظلت تقوم على مدة تقل عن عشرة أعوام بمهام الدولة في كوسوفو بموجب تفويض من مجلس الامن.
فعندما غادرت القوات الصربية أرض كوسوفو عام 1999، تم مباشرة إنشاء بعثة الأمم المتحدة في كوسوفو يونيميك ( the United Nations Interim Administration Mission in Kosovo (UNMIK))، ثم انتخاب حكومة كوسوفو المؤقتة. ووفقاً لولايتها ، تساعد البعثة في ضمان الظروف المواتية لحياة طبيعية سلمية لجميع سكان كوسوفو ، والنهوض بالاستقرار الإقليمي في غرب البلقان. تركز أولويات البعثة على تعزيز بناء الثقة بين المجتمعات ، واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون ، والمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة والشباب.
ومنذ تلك اللحظة ظلت عملية بناء المؤسسات السياسية متواصلة، ولكن بثنائية وعلى التوازي، فمن ناحية هناك المؤسسات والبعثات الدولية، ومن ناحية أخرى هناك مساعٍ متعددة لإنشاء مؤسسات سياسية محلية كوسوفية بديلة. وخلال السنوات الأولى التي تلت تحرير كوسوفو، كانت مؤسسة بعثة الأمم المتحدة في كوسوفو هي التي تعود إليها الكلمة الفصل في اتخاذ القرارات السياسية، في حين كانت الأطراف السياسية والحكومية الكوسوفية مهتمة أساسًا بعملية بناء المؤسسات لتمكينها لاحقًا من لعب أدوار متقدمة وأكثر حضورًا في مجالات التشريع وأعمال السلطة التنفيذية. في 17 فبراير من عام 2008، تم الاعلان عن استقلال كوسوفو، و تحول جانب كبير من صلاحيات بعثة الأمم المتحدة في كوسوفو (يونيميك) إلى المؤسسات الوطنية الكوسوفية.
نخلص من ذلك، أن تصريف اعمال الدولة في كوسوفو بموجب قرار من مجلس الامن، و تفويض إدارة دولية لحماية المواطنين و إنشاء مؤسسات سيادة حكم القانون، و تقديم الخدمات الاساسية، كان ضمن خطة طويلة المدى لبناء الدولة و حماية المدنية و انهاء الحرب الاثنية بين المسلمين و الصرب. و بالتالي، كان ذلك ترتيب، بجانب انه يتضمن مساعدة الدولة في الاستقرار السياسي و التعايش السلمي و التنمية، إلا إنه يتضمن تحقيق أهداف ذات نطاق أوسع، ألا و هي إنهاء النزاع المسلح و تأثيراته الإقليمية و الدولية و صيانةالسلم و الامن الدوليين.
تم تأسيس بعثة المم المتحدة للمساعدة في الانتقال الديمقراطي في السودان (ينتامس) و التي تكونت بموجب قرار من مجلس الامن، ليكون لها اختصاص محدد في المساعدة في انجاح التحول الديمقراطي من خلال – المساعدة في تنظيم الانتخابات – كتابة دستور للسودان – و المساعدة في حل الازمة الاقتصادية – و بناء السلام المستدام. من المؤكد ان تطور الاحداث على الارض و تأثيرها على الامن و السلم الدوليين، هو الذي سيحدد التطور في موقف مجلس الامن تجاه السودان، و سيحدد الدور الجديد الذي من المفترض أن يلعبه مجلس الامن. إن تجربة الامم المتحدة في كوسوفو كان مكلفة مالياً، و وضعت أعباء إدارية و تقنية و لوجستية كبيرة على عاتق الامم المتحدة و مؤسساتها، و ليس من السهل العودة لتلك التجربة. و أي تغيير في مهام البعثة الحالية في السودان يتطلب التوافق حول قرار جديد من مجلس الامن يوسع من مهام البعثة لتتضمن مهام سياسية و إدارية جديدة.
خاتمة:
هذه هي الخيارات الدستورية و السياسية التي حدثتنا عنها التجارب في السودان و التجارب المشابهة في الدول التي مرت بظروف مماثلة للاحوال الامنية و السياسية في السودان. هذا الجهد غير مكتمل، و يرجو كاتبه الاستفادة من مقترحات القراء في إغناء البحث و استكماله.

مقالات ذات صلة

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x