مقالات الرأي

قراءة في الاتفاق الموقع بين تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) و قوات الدعم السريع (ق د س) -(٨)


بقلم: الصادق علي حسن

وردت مسائل ثلاث في الاتفاق السياسي بين (تقدم) و(ق د س) عرضت وكأنها تأتي بالحلول الناجعة لقضايا ومشكلات البلاد الواردة بالبنود (٦/ ٧/ ٨) صفحة (٣) من الاتفاق، وقد تم استخدام مصطلحات رائجة من تجارب من دون الغوص في جوهر الأمور والقضايا التي استهدفت تلك المصطلحات مخاطبتها وهي (العدالة الانتقالية -الدولة غير المنحازة -الإصلاح السياسي),و بالضرورة تعلية المعارف بهذه المصطلحات والتجارب التي أفضت لبلورتها كنماذج للأخذ بها وذلك حتى لا يتم إستخدامها في غير مكانها الصحيح .
العدالة الانتقالية :
مصطلح العدالة الانتقالية برز في عام ١٩٤٥م عقب الحرب العالمية الثانية ضمن مصطلحات تدابير معالجات القضايا الناشئة بفعل الحرب، وتعني العدالة الانتقالية التدابير القضائية وغير القضائية التي تؤدي إلى سيادة حكم القانون ومعالجة الآثار السالبة التي لحقت بالضحايا وتحقيق التعافي المجتمعي . الآن صارت العدالة الانتقالية بحوث وعلوم ودراسات تاريخية للكثير من الشعوب والبلدان وقد تجاوزت غالبية الدول والمجتمعات فكرة العدالة الانتقالية نفسها وقد صارت سيادة حكم القانون من عناوين الدول ونظم المجتمعات والمؤسف حقا ان دولة السودان التي نالت استقلالها في عام ١٩٥٦م وعند استقلالها كانت تمارس الديمقراطية والحكم المدني تقهقرت لتصبح دروس تجارب العدالة الانتقالية في دول مثل جنوب إفريقيا والمغرب ورواندا تنفق من أجلها وتبدد ملايين العملات الصعبة بواسطة المنظمات المحلية والدولية في ورش العمل والندوات والمؤتمرات لتعليم السودانيين تجارب دروس ومعارف العدالة الإنتقالية التي يمكن معرفتها بكلفة مالية يسيرة مثل كلفة خدمة الإنترنت وتصفح الوسائط من داخل المنازل . لقد تحولت العدالة الانتقالية إلى ظاهرة رحلات داخلية وخارجية وفنادق وتمويل وتقارير خلاصتها أشرطة فيديو لمتأثرين/ات بإنتهاكات جسيمة يقومون بروايات لتجاربهم الذاتية في مشاهد مؤثرة حول كيفية تجاوزهم للظروف الصعبة وإندماجهم في مجتمعاتهم المحلية والتصالح ، صحيح إن تجارب العدالة الإنتقالية جديرة بالنظر فيها والإستفادة من دروسها وبالإمكان ان يتحقق ذلك بأقل كلفة ولأكبر قطاعات وفئات مجتمعية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وتوجيه الأموال الضخمة التي يتم استقطابها من الممولين في مشروعات ذات جدوى وتأثير وفائدة حقيقية للمجتمع ، * نستعرض في هذا المقال اهم نماذج العدالة الإنتقالية في أفريقيا (دولة جنوب إفريقيا -المغرب -رواندا) لمعرفة مدى علاقتها بالحالة السودانية والدروس المستفادة المستخلصة:

  • العدالة الانتقالية في جنوب إفريقيا :
    دولة جنوب إفريقيا الحديثة أسسها الهولنديون (البوير) الذين وصلوا إليها قبل خمسة قرون وذلك قبل ظهور حركة الكشوفات الجغرافية ،لقد قام البوير الهولنديون باستعمار المجتمعات السكانية المحلية واستعبادهم ، وحينما نشأت الدولة الحديثة بشكلها الحالي تم تقنين الإستعمار والإستعباد من خلال قوانين الفصل العنصري وفي ظل حقب الإستعمار والإستعباد نشأت تراكمات ظلامات مجتمعية من خلال وجود مجتمعين وشعبين في دولة وأحدة أحدهما يمارس الإضطهاد وإستعباد الأخر من خلال استغلال القانون وأدوات الدولة الرسمية . بعد فترة نضال طويل قاسى الزعيم التاريخي مانديلا نفسه المرارات لثلاثة عقود في الإعتقال والحبس وكان الرئيس الجنوب إفريقي المحامي فردريك دي كليرك لا يقل عنه حكمة فقاما بهندسة انتقال مجتمعي ونجاحا في تجاوز آثار الفصل العنصري والتأسيس لدولة شعب وأحد بدأ دي كليرك ورفاقه في الدولة وحكومة البيض بمباشرة علاج تشوهات القوانين وممارسات التمييز العنصري الرسمية كما وفي الجانب الآخر قام نيلسون مانديلا ورفاقه السُمر ومعهم زملاؤهم البيض في حزب المؤتمر الإفريقي بمخاطبة وأمتصاص تراكمات الظلامات التاريخية لدى غالبية سكان جنوب إفريقيا السُمر وهم السكان الأصليين أصحاب الأرض، بدأ مانديلا بنفسه وأسرته بالإنفصال رسميا من زوجته الثانية (ويني مانديلا) في عام ١٩٩٦م و التي تم اتهامها بالتورط في جرائم قتل أثناء فترة الكفاح المدني كما وارتبط لاحقا بارملة صديقه المناضل الرئيس الموزمبيقي سامورا ميشيل غراسا ميشيل وكان ذلك تأكيدا وإبرازا لدور الأسرة الآمنة في حركة التحرر الوطني وما يكنه لأصدقاء في حركة التحرر الوطني الإفريقي والمدافعين عن حقوق الإنسان وكان مانديلا يرغب في الزواج بالناشطة والمدافعة الحقوقية أميمة (كشاليا) ، وخاطب مانديلا التكوينات السياسية لإجراء الإصلاحات السياسية الحزبية وعدم التمسك بالسلطة بتخليه عن رئاسة حزب المؤتمر الوطني وعن رئاسة الدولة و الإكتفاء بدورة رئاسية وأحدة وأفسح المجال لإبن صديقه في الكفاح ثامبو إمبيكي ليتولى رئاسة الحزب ورئاسة الدولة وانصرف مانديلا في بقية حياته لشؤون مجتمعه المحلى وصار من خلال سلوكه رمز الكفاح الأول ضد التمييز العنصري وقد حافظ على وحدة شعبه ودولته.
    الدروس المستخلصة من تجربة جنوب إفريقيا لا تشبه تجربة السودان لقد استفادت مجتمعات الغرب والولايات المتحدة الأمريكية المماثلة في أوضاع وممارسات التمييز العرقي الموروثة من تجربة دولة جنوب إفريقيا من دون تبديد للأموال في الورش والندوات والمؤتمرات وقد صار تمثال مانديلا الذي يتوسط الحدائق العامة والساحات الرئيسة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي لندن ومدريد والعديد من العواصم الغربية من مصادر الإلهام في الغرب لمناهضة ممارسات التمييز العنصري كما وبوصول العديد من المتحدرين من أصول أفريقيا والملونين إلى مناصب رفيعة ببعض دول الغرب وتوجت حالة التعافي والتصالح المجتمعي في الغرب بوصول الرئيس الأمريكي الأسبق أوباما لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية في دورتين إنتخابتين.
    الباحث في تجربة جنوب إفريقيا لا يجد فيها مع يجمعها بالحالة السودانية وقد تكون حالة دولة إسرائيل في حاجة لمثل تجربة جنوب إفريقيا.
  • تجربة المغرب :
    ابتدر ملك المغرب العدالة الإنتقالية لطي صفحات الممارسات والإنتهاكات التي تمت عقب خروج المستعمر وتأسيس المملكة المغربية وقد طالت الإنتهاكات زملاء حركة التحرر الوطني وأسرهم كما وهنالك من قتلوا وفقدوا ولا يعرف مصائرهم بالرغم من مرور عشرات السنوات .إن الباحث في تجربة المغرب في العدالة الإنتقالية يجدها لا تشبه الحالة السودانية في شئ ، فالعدالة الإنتقالية بالمغرب أستهدفت رد الإعتبار لمن شاركوا في إجلاء المستعمر وتعرضوا للإنتهاكات بفعل التنافس على السلطة. وتجربة المغرب ليست بها أي دروس مستفادة مماثلة للتجربة السودانية.
  • تجربة دولة رواندا.
    تبذل منظمات الغرب جهودا متواصلة في تقديم نموذج دولة رواندا باعتباره النموذج الأمثل لتجاوز الصراعات المجتمعية في إفريقيا وتصوير الرئيس الرواندي بول كاغامي بانه رسول الإنسانية الذي وصل إلى السلطة ظافرا بها عقب الصراع الاثني والمجازر المرتكبة ما بين مكونات قبيلتي الهوتو والتوتسي . بقي الرئيس كاغامي في السلطة لثلاثة عقود وفي خلال عهده تمكن من تحويل رواندا إلى دولة عصرية ومجتمع عصري ونمو إقتصادي مزدهر ، ولكن الباحث في تجربة رواندا يجدها أصابت النجاح المرتبط بسلطة الرئيس بول كاغا قامي والذي أحتكر السلطة ومعه رفاقه وغالبيتهم من المكونات القبلية التي ينتمي إليها الرئيس نفسه وتعددها بحسب الإحصائيات المحلية في رواندا في حدود ١٥% من سكان دولة رواندا اما المجموعات العرقية الأخرى من الهوتو والتي تمثل الأغلبية والتي خسرت السلطة عقب مجازر ١٩٩٤م والتي قبلت بتدابير العدالة الإنتقالية الرسمية مرغمة فانها تنظر بان تلك التدابير قد ابعدتها من السلطة كعقوبة جراء الجرائم المرتكبة بدعم من دول الغرب،كذلك هنالك كثر من الروانديين لا يثقون بان تدابير العدالة الإنتقالية المطبقة في دولة رواندا ستحافظ على استقرار الدولة بعد ذهاب كا غامي من السلطة خاصة إذا لم يصل منصب الرئيس شخصية بذات قدراته ودهاءه وكارزمية كاغامي، وان التجربة الحالية عرضة للإنهيار التام في أقرب سانحة او تجربة إنتخابية حقيقية حرة وعودة الحكم والنفوذ للهوتو صاحبة الأغلبية العددية وليس للبرنامج الإنتخابي السياسي. كما والباحث قد يجد ايضا بان تجربة العدالة الإنتقالية في رواندا والتي لا تصلح لتحقيق انتقال ديمقراطي للسلطة بل أنموذج يكرس لنفوذ وسلطة الأمر الواقع ولن تصلح للحالة السودانية بأي حال من الأحوال .
    وبالرجوع إلى البند (٥) ص (٣)من الاتفاق السياسي بين (تقدم) و(ق د س) التالي نصه نقرأ :(إطلاق عملية شاملة للعدالة الإنتقالية، تكشف الجرائم وتنصف الضحايا وتجبر الضرر وتحاسب المنتهكين بما يضمن عدم الإفلات من العقاب، وتصميم حملة لمكافحة خطابات الكراهية وتحقيق التعافي الوطني) .
    إن الطرفان (تقدم) و(ق د س) قد أعلنا بأنهما سيطلقان عملية شاملة للعدالة الإنتقالية كما وهما لا يملكان أي تصور محدد حول العدالة الإنتقالية. قبيل عقد المؤتمر الرئيس للعدالة الإنتقالية بالخرطوم ضمن ورش الإتفاق الإطاري والذي حشد له المشاركين من دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان ختاما لمؤتمرات الهرولة التي نظمت بالولايات وبددت فيها الأموال الضخمة، اتصل بي من مساعدي رئيس البعثة المشتركة فولكر بريتس وهم يستجعلون المشاركة في ختام مؤتمرات العدالة الإنتقالية لتقديم ورقة عن العدالة الإنتقالية في المؤتمر الختامي الرئيس بالخرطوم، لقد اعتذرت لبعثة اليونتامس وقدمت لها النصح بانه ما هكذا يتم بحث تجارب العدالة الإنتقالية ، لقد كانت اليونتامس ومن يتولون إنفاذ البرامج من السودانيين الذين حصلوا على تمويل ضخم في حاجة لمؤتمر دعائي لكتابة التقارير وجلب واستقطاب المزيد من الأموال، وبالفعل توج المؤتمر المذكور بالإنعقاد والحضور الكثيف ومخرجات التقارير المنقمة التي ذهبت مع الحرب التي بدأت في يوم ٢٤رمضان/ ١٥ ابريل ٢٠٢٣م.
  • النسخ واللصق :
    نشطاء (قحت) و)تقدم) لا يهتمون بالإطلاع على التجارب وأستخلاص الدورس، فرواندا تحت طلاء ومساحيق تجميل العدالة الإنتقالية تعاني حاليا من
    ممارسات قمع حرية التعبير السياسي بواسطة الرئيس بول كاغامي ورفاقه، ويصدح مدافعون عن حقوق الإنسان بان الرئيس بول كاغامي الذي قاد الجبهة الوطنية للنصر على نظام الهوتو في عام ١٩٩٤م جعل غالبية السلطة في بلاده بيد أقلية قبيلة التوتسي المتحدرة منها مستغلا الكراهية التي سادت المجتمع من جراء نظام الهوتو والمجازر العرقيةالتي ارتكبت في عام ١٩٩٤م ، كما ولم تؤدي شعارات العدال العدالة الانتقالية المنصوبة بالبلاد إلى إجراء إصلاحات سياسية حقيقية بل صارت مدخلا لتكريس الحكم لدى الرجل الواحد . لقد كشف وصول المعارض الرواندي بول روسيسباغينا المفرج عنه من معتقلات الرئيس كاغامي إلى الولايات المتحدة الأمريكية في مارس ٢٠٢٣م وإحتفاء مستشار الأمن الأمريكي جاك سالفيان والرئيس جو بايدن بعودته لأسرته وعائلته بالولايات المتحدة الأمريكية بعد وساطة قادتها قطر بين الولايات المتحدة والرئيس كاغامي مما أدي إلى تخفيف الحكم الصادر في مواجهته بالسجن (٢٥) عاما لإدانته بالإرهاب بعد قضائه (٩٣٨) يوما بالسجن ، وقد سلط اعتقال وسجن المعارض بول روسيسباغينا ثم الإفراج عنه بعد وساطة دولة قطر الضوء على سجل رواندا في قمع المعارضة السياسية وحرية التعبير في عهد كاغامي ، ويعد المدافع الحقوقي بول روسيسيباغنيا في بلاده من المدافعين البارزين الذين قاموا بحماية المدنيين العزل من المجازر العرقية في ١٩٩٤م ويحظى بالإحترام ، كما ظل أنصاره يؤكدون خلاله محاكمته بان اتهامه بدعم مجموعة متمردة ومحاكمته بتهم كلها مفبركة وان المحاكمة نفسها صورية وكيدية . نواصل.

مقالات ذات صلة

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x