مقالات الرأي

شاهدة عيان: زيارتي إلى الجزيرة أبا

بقلم: شوقي بدري

المصدر اسفل المنشور

آنا بيزيلي قد أتت للسودان للعمل مفتشة لتعليم البنات بأمدرمان بين عامي 1939 – 1942م، ثم مراقبة لتعليم البنات في الخرطوم حتى عام 1949م حين تقاعدت عن العمل بالسودان.

وكان قد سبق لها العمل محاضرة بجامعة رانقون في بورما وجامعة نوتنقهام وكلية ماريا قراي ببريطانيا.

ولد السيد السير عبد الرحمن المهدي باشا بعد وفاة أبيه.
وكان في طفولته وصباه معدما حتى عام 1908م حين سمح له المستعمر بالزراعة في الجزيرة أبا. غير أن سلاطين باشا عمل على منعه من ذلك، ولم يتسن للسيد عبد الرحمن التوسع في زراعة الجزيرة واستقدام الأنصار للزراعة إلا بعد مغادرة سلاطين للسودان نهائيا في عام 1914م.
وما أن أتى عام 1925م حتى كان ذلك الرجل أقوى رجل بالسودان، وصاحب نفوذ سياسي وديني كبيرين.
ومنحه البريطانيون لقب “فارس” في الأول من يناير من عام 1926م، وسجل له الحاكم العام السير جيفري آرشر زيارة رسمية في الجزيرة أبا بعد ذلك بشهر واحد. وأغضبت تلك الزيارة كبار الإداريين البريطانيين وتسببت في إجبار الحكومة البريطانية على استدعاء جيفري آرشر واستبداله بآخر.
ودعاني السيد عبد الرحمن ذات مرة لزيارة الجزيرة أبا، وستظل تلك الزيارة هي واحدة من أهم الزيارات التي قمت بها في السودان على الإطلاق.
ولا غرو، إذ لم يسبق لي أن استضفت من قبل رجل يعده مئات الألاف من الأهالي رجلا مقدسا بدرجة (اله) يطمح يوما ليصبح ملكا على كامل السودان.
ويجب علي القول هنا بأن الرجل بالغ في تلك الزيارة في إكرامي وتقديري. واستمتعت كذلك بمشاهد كوميدية رائعة في كل أيام زيارتي، والتي قمت فيها بالإشادة بالسيد عبد الرحمن باعتباره ممثلا بارعا Superb performer.

ولعل عدم تذوقي وتفهمي لكل ما رأيته وسمعته في تلك الزيارة لا يشير إلى أي شعور بعدم العرفان أو نكران الجميل، فنحن نقارن الحياة من زوايا مختلفة
وأحسست في لقائي بالسير عبد الرحمن المهدي باشا بعد دعوته لي لتناول كوب من الشاي، كما أحسست في لقاء من بقي من رجال الخليفة، بأني ألمس جزءا حقيقيا من التاريخ. وكان البريطانيون يسمونه على سبيل الاختصار S.A.R.،
بينما كان المخلصون من أتباعه يلقبونه بـ “السيد”. لقد كان هنالك بالبلاد الكثير من “السادة”، ولكن بالنسبة للأنصار فإن هنالك “سيد” واحد لا نظير له، وهو الذي وقع عليه عبء قيادتهم بعد وفاة أبناء المهدي الآخرين (الفاضل ومحمد وبشرى وصديق والطيب والطاهر ونصر الدين)
في المعارك التي دارت في عامي 1898 و1899م، أو بسبب المرض في السجن، بينما توفي أخوه علي (الزاهد في السياسة) في عام 1944م.
وكان أهم عامل لبروز السيد عبد الرحمن لمركزه القوي بالبلاد هو تعضيد وتشجيع حكومة العهد الثنائي له باعتباره بؤرة تجمع لضمان ولاء قبائل غرب السودان.
فقد كان السيد عبد الرحمن موضوعا تحت المراقبة الحكومية اللصيقة بين عامي 1898 و1915م. وأتاح قيام الحرب العالمية الأولى له فرصة ذهبية ليطوف على مناطق كردفان ودارفور ليحرض أفراد قبائلها على تأييد حكومتي العهد الثنائي وبريطانيا، ومعارضة السلطان علي دينار.
وفي سنوات العشرينيات انتشر مندوبو السيد عبد الرحمن في غرب السودان لدعوة أنصاره وتأليبهم للحاق به في الجزيرة أبا والعمل تطوعا في مزارعه.
وكان السيد عبد الرحمن في تلك الأيام الباكرة شخصية قليلة الشأن. غير أني عندما قابلته في عام 1939م كان قد غدا رجلا بالغ الثراء وشخصية معروفة ومهمة ومقدسة عند أنصاره. وكان البريطانيون، في اتساق مع سياستهم المفضلة المعروفة بـ “فرق تسد” يؤيدون السيد عبد الرحمن تارة، ويساندون منافسه السيد علي الميرغني تارة أخرى.
وعند المقارنة بين السيدين كان البريطانيون يرون أن السيد عبد الرحمن (S.A.R) هو السيد الأكثر نبضا بالحيوية.
وكنت كثيرا ما أزور السيد عبد الرحمن وأحضه على دعم تعليم البنات، وكان يبدي اهتماما متقطعا (وربما مزيفا) بتلك القضية. وقد قام بالفعل – وبعد صعوبة بالغة – بتقديم بعض العون لبابكر بدري في مشروعه لتعليم البنات بمنحه بيوتا قديمة وغير صالحة للاستخدام في أمدرمان لإقامة مدارس للبنات، واضطررت لمناشدته أكثر من مرة لمنح الرجل بيوتا أكثر صلاحية، وقد استجاب لذلك أخيرا.

وتختلف آراء الناس حول تحليل شخصية السيد عبد الرحمن اختلافا كبيرا. غير أن الكل يجمع على أنه أحد أهم شخصيات البلاد. ويزعم منتقدوه أنه رجل ماكر وشديد الطموح. ويتهمه بعض المسئولين بأنه رجل مختال، ولكن من النوع التقليدي القديم. ولم يكن السيد عبد الرحمن ليفرط في مركزه القوي ووضعه المميز عند الحكومة، فشجب – مع غيره من زعماء البلاد التقليديين – حركة 1924م المسماة “اللواء الأبيض” المؤيدة للمصريين. وظل البريطانيون يعدونه، ولسنوات طويلة قادمة، السد المنيع ضد أي اتجاه لاتحاد السودان مع مصر. ولا ريب عندي أن شخصية السيد عبد الرحمن شخصية معقدة ذات مزاج متقلب. لطالما تقت لسؤاله عن رأيه في “القداسة” التي ينسبها إليه أنصاره، إذ أن كثير من عظماء التاريخ (مثل غاندي) لم يكونوا ينسبون لأنفسهم أي سلطة روحية أو حق إلهي كما يفعل هو.
وحدث ذات مرة أن سافرت معه في نفس القطار، وذهلت عندما رأيت تقاطر جموع كبيرة من الرجال بجلابيبهم البيضاء في كل محطة لتقبيل يديه المدودة من نافذة القطار. وكان ذلك القطار يسير في ليلة مقمرة مما أعطى بعدا شديد الرومانسية لمشهد الأنصار وهم يتمسحون بعربة النوم المخصصة للسيد وأصواتهم تعلو بالصياح. وأعطى منظر رجال القبائل الشُعْث وهم على ظهور الإبل يسابقون قطار السيد طعما ونكهة حقيقية للهمجية wildness.

غير أن نظرتنا له، نحن النساء البريطانيات بالسودان، كانت عادية الى حد بعيد. فقد كان يغمرنا بكرم شديد ويدعونا كثيرا لحفلات شاي فخمة يقيمها في داره، حيث كان يقوم بدور المضيف الممتاز. وكان يستقبلنا في داره بأمدرمان أو في سرايته بالخرطوم وهو في كامل اناقته، دون أي أثر لإسراف أو افراط في التزين flamboyance
وعقب عودتي لمنزلي بأمدرمان (بحي الملازمين) من رحلة تفقدية لمدارس البنات في جبال النوبة تلقيت في مايو من عام 1945م دعوة شخصية من السيد عبد الرحمن لزيارة الجزيرة أبا لحضور افتتاح أول مدرسة للبنات بها لتعليم اللواتي كن يعملن في غزل القطن، ولافتتاح فصول إضافية في مدرسة البنين.
وكان السيد عبد الرحمن قد دعا أيضا، وبصورة رسمية، مدير التعليم (سي. وليامز) لحضور تلك المناسبة ولكنه أعتذر وكلفني رسميا بالإنابة عنه في تلك المهمة. ثم أتاني من يبلغني بأن السيد عبد الرحمن يدعوني لتناول كوب من الشاي معه لمناقشة تفاصيل الزيارة المرتقبة. وكنت قد قررت في البدء السفر إلى الجزيرة أبا ليلة السبت والعودة منها ليلة الإثنين، إلا أن السيد أصر على أن تبدأ رحلتي لأبا يوم الثلاثاء 15 مايو، على أن أعود للخرطوم يوم الأحد (الموافق ليوم 20مايو) حتى يتسنى لي البقاء بالجزيرة لعدة أيام وذلك لتقديم النصح بشأن المدرسة الجديدة.
وهنا بدأ الشك يتسرب لعقلي – دون سبب واضح- بأن وجودي في تلك الجزيرة كان لأمر ما غير ما ذكره لي السيد.
وكانت حفلة الشاي هذه المرة تختلف عما سبقها من حفلات رسمية، فقد بدا السيد هذه المرة رقيقا ولطيفا، ولكن مع بعض التعالي. ولم يكن هنالك من أحد معه في الصالون غيري وسيدة أخرى هي مدام هيلدشينسكي Huldchinsky التي كانت تعمل مدبرة housekeeper في داره. وهيلدشينسكي سيدة ألمانية ثرية ذات أصول يهودية، وتبلغ من العمر نحو الخمسين سنة. وكانت تلك السيدة متزوجة من طبيب بولندي، فر معها من المانيا بسبب مضايقات النازيين لليهود واستقرا بمصر. ولما توفي الزوج اضطرت للعمل مدبرة في أحد المستشفيات. وعندما حاول الألمان غزو مصر ووقف روميل على حدود الإسكندرية فرت – مع عدد كبير من الأوربيين – جنوبا إلى السودان. واحترفت في الخرطوم مهنة النحت والرسم والتلوين، ثم عملت من بعد ذلك مدبرة في “الفندق الكبير”.
وفي بدايات شهر مايو من عام 1945م انتقلت للعمل في وظيفة مدبرة في دار السيد عبد الرحمن، حيث كانت تحرص على ارتداء زي أسود أو أبيض. وقدر لي أن أطلع على تقرير كانت قد كتبته لمخدمها وانتقدت فيه القذارة والفوضى في الأجزاء الخلفية من تلك الدار، واقترحت القيام بكثير من الإصلاحات بها. غير أني أعتقد أن ما من أحد ألقى بالا لتلك المقترحات. ولهذا قررت السيدة هيلدشينسكي مغادرة السودان نهائيا في نهاية شهر أغسطس من عام 1945م.
ثم أتى أصغر أبناء السيد (عامان ونصف عاما) في ملابس أوربية وجعل يلعب عند قدمي والده، والذي انشغل عنا بمداعبة طفله. ثم أقبل عدد آخر من أبناء السيد وظلوا يلعبون بين أقدامنا وهم يلتهمون كيك البرقوق. ثم أخرجوا جميعا من الغرفة بعد أن بلل أصغرهم سجادة الصالون الفارسية الفاخرة.

تنبع شهرة الجزيرة أبا (والواقعة في النيل الأبيض بالقرب من كوستي) من كونها المكان الذي بدأ منه محمد أحمد المهدي دعوته، ثم ثورته على الحكم التركي – المصري للبلاد في سنوات ثمانينيات القرن التاسع عشر المضطربة. ولهذا السبب المقدس بنى السيد عبد الرحمن له ولأسرته دارا ضخمة البنيان في تلك الجزيرة، واستصلح أراضيها وأقام له فيها عزبة estate مربحة. ويعد أنصاره جزيرة أبا مزارا مقدسا. ولما كان للسكة حديد رحلتان فقط إلى كوستي كل أسبوع فقد تقرر أن أسافر للجزيرة بالقطار يوم الثلاثاء (15 مايو) وأن أعود للخرطوم يوم الأحد التالي.
وكان في وداعي بمحطة السكة حديد بالخرطوم أحد أفراد عائلة السيد عبد الرحمن وكنت متشوقة للقيام بتلك الزيارة، وفي ذات الوقت كان يساورني بعض القلق عن طبيعة ما هو مطلوب مني عمله في أيام تلك الزيارة، وعن كوني امرأة بريطانية وحيدة في وسط مجتمع (ذكوري) يوصف بالتعصب. وسعدت حقا عندما برقت السماء وعلا دَوِيّ الرعد، فتوقفت مسيرة القطار حتى صباح اليوم التالي. واكتشفت أنني في ذلك القطار كنت في معية عبد اللطيف طباخ السيد عبد الرحمن، وقد كان من خيرة أصدقائي من السودانيين وذلك لأنه كان يستشيرني في أمر تعليم بناته في المدارس الحكومية إلى أقصى حد يرغبن فيه. كان مثله مثل سيده، رجلا طويل القامة وذا شخصية مميزة. وكان مجيدا لصنعته، خاصة عمل كيك البرقوق، والذي كان يقدم في حفلات الشاي التي كان السيد يداوم على اقامتها.
وفي ذلك الوقت من السنة كانت الجزيرة ترتبط بمحطة السكة حديد وذلك بطريق قصير. وصلنا لمحطة ربك متأخرين بسبب الأمطار عند الساعة الحادية عشرة ليلا، وقابلني أحد وكلاء السيد عبد الرحمن (واسمه الزين الأمين) في المحطة وأخذني في سيارة فخمة إلى الجزيرة أبا. كان الزين رجلا طويلا له وجه نحيل، ويضع على رأسه أكبر عمامة رأيتها في السودان. وبدا لي وجه الرجل أشبه بما كنت أراه في رسومات “كتاب ألف ليلة وليلة”.
لم أر شيئا حولي في الطريق إلى الجزيرة بسبب الظلام الكثيف إلى أن وصلنا لحديقة كبيرة مضاءة بمولد كهربائي كبير سرنا في وسطها بين أشجار نيم ضخمة إلى أن بلغنا جناحا مرتفع البنيان في وسط تلك الحديقة. ولا شك أن ذلك المبنى – رغم تواضعه النسبي – كان يبدو فخما ومريحا لمسافرة مرهقة مثلي. وأخذت على الفور لغرفتي، والتي كانت كثيرة الأبواب والنوافذ، ومؤثثة بأثاث مختلف الأنواع والألوان ومهترئ، ليس بسبب القدم بل بسبب رداءة نوعه. وأحضر لي طبق من الفاكهة ولبن جاموس، وأخبرت بأني سألقى السيد عبد الرحمن في صبيحة اليوم التالي.
وفي صباح اليوم التالي ارتديت ملابسي وكان أول من طرق بابي هي الست مدينة عبد الله (أول مفتشة تعليم بالسودان)، والتي كانت في الجزيرة أبا في تلك الأيام بحكم أنها كانت تنتمي لعائلة السيد عبد الرحمن، ربما بطريق اقطاعي feudal way يصعب تعريفه هنا. وكنت في غاية السعادة لرؤية ست مدينة في ذلك الوسط الذكوري الخالص الذي كانت تدور غالب قيمه حول “قدسية” السيد. ورغم أن ست مدينة كانت من المؤمنات أيضا بقدسية السيد، إلا أنها كانت أيضا من المؤمنات بضرورة تعليم البنات، وكنت أستطيع تبادل الحديث معها بـ “لغة النساء”.
وعرضت على ست مدينة أن أقابلها مرة أخرى لمواصلة ما بدأناه من حديث فبدا علي وجهها الارتباك، وأخبرتني وهي في غاية الاحراج إنها تقيم في ضيافة أسرة السيد الهادي، وأنه سيكون موقفا محرجا لها إن أخذتني إلى نساء العائلة. قدرت حالة كوني سببا لإحراج صديقتي السودانية، فهونت من الأمر عليها وطمأنتها بأني سأطلب حضورها إن احتجت لها (وهو أمر بعيد الاحتمال)، فمضت لتؤدي صلاتها بينما بقيت في غرفتي أمارس هوايتي المحببة: الحياكة.
وعند الثامنة إلا ربعا أتى من يخبرني بأن السيد يرغب في رؤيتي بمكتبه عند الثامنة. وبعد عشر دقائق من ذلك لمحت من النافذة السيد عبد الرحمن في الحديقة وهو يتأمل حصانا عربيا يقوده أحد السُيَّاس. ولكن عند الثامنة تماما وجدت السيد يقف في مكتبه وهو يبدو في غاية النشاط والانشراح بعد جولته الصباحية المعتادة. تبادلنا التحايا وشكرته على الدعوة الكريمة لزيارة جزيرته.
دعاني السيد لتناول الإفطار معه، وكنت أدرك أنني سأكون المرأة الوحيدة على طاولة الإفطار، إذ أن النساء السودانيات المحترمات لا يأكلن قبل أو في وجود أزواجهن. ولكن لم يشاركنا أحد على مائدة الإفطار ذلك الصباح. واكتشفت في ذلك الصباح أن السيد عبد الرحمن شخص ذكي وعذب الحديث وشديد اللباقة. وكنت أتحدث معه خلال الافطار بلغتي العربية البطيئة، والتي أعتقد أن عقله كان يفكر في عشرات الأشياء وأنا أحاول إخراج كلماتها. وكان كثيرا ما يكتفي بالتعليق على كثير مما كنت أنطق به بكلمة “كدا؟ا” (بمعنى أحقا؟) بنغمة ودودة عميقة، وفي ذات الوقت يستدعي موظفا ويطلب منه احضار وثيقة أو تفاصيل أمر خطر بباله للتو. ولفت نظري صغر سن من كان يعمل تحته من الموظفين والخدم وحاجتهم العاجلة للتدريب (عدا بالطبع الطباخ المجيد عبد اللطيف).
وكان الإفطار يتكون من حساء الشعير بالكريمة والسكر، وسمك مقلي، وبيض مقلي فوقه قطع من كبد الضأن المشوية، وخبز محمص ومربى، وفوق كل ذلك أكوام من فواكه مختلفة مثل الجوافة والمانجو والموز. أما الغداء والعشاء فكانا يتكونان أساسا من لحم طير (غالبا ديك حبشي/ رومي).
وعادة ما كان يصاحب الشاي الذي يقدم بين الوجبات
كيكة البرقوق الشهيرة. في أحد المرات كان السيد عبد الرحمن يحدثني عما يفضله من ألبان الحيوانات المختلفة، ويبين لي مزايا كل واحد. ولما أخبرته بأني لم أتذوق لبن الإبل قط أمر خادمه بأن يحضر لغرفتي كوبا منه قبل النوم. وذات مرة كنت أتفقد مزرعة الفواكه في عزبة السيد، ولعلي ذكرت بطريقة عابرة بأن البرتقال هو أفضل الفواكه طرا. وعجبت من ظهور صحن من ثمار البرتقال في اليوم التالي، ولا أدري من أين أتت تلك الثمار، وقد قيل لي آنذاك أن موسم البرتقال لم يحن بعد!
ولم يحدث أن تناولت في أي يوم من أيام زيارتي وجبة في حضرة أي امرأة من نساء العائلة سوى في عشاء واحد تناولته مع أصغر زوجات السيد على “المسطبة” تحت ضوء شمعة وحيدة مثبتة في شمعدان. ولم تكن الدردشة مع تلك الشابة المليحة المشلخة (والتي قدرت أنها في الثلاثينيات من العمر) مثيرة جدا، ولكنها كانت مقبولة، حيث تحدثت معي عن رحلتها لأركويت حيث أتيحت لها فرصة التجول على قدميها. وعندما أنتهى العشاء وعدتني بزيارتي في غرفتي للاطمئنان على عدم احتياجي لشيء فشكرتها. لم أكن قد رأيت ملامحها جيدا تحت ضوء تلك الشمعة، ولكن بدا لي صوتها محببا عذبا. ولعلها لم تتبين ملامحي أيضا، وأرادت بعرضها زيارتي في غرفتي أن تتأكد من ملامحي تحت ضوء قوي!

كانت بقية أيامي بالجزيرة عامرة بالنشاط، دون بذل أي مجهود عضلي يذكر. فقد كان السيد عبد الرحمن واسع الحيلة في ابتكار ما يملأ يومي من الطواف على كامل الجزيرة ومشاهدة مختلف الأشياء التي يعتقد أنها قد تثير اهتمامي. فقد شهدت في يومي الأول عرضا لصبية كشافة الكلية القبطية بالخرطوم على أنغام الطبول والناي fife. وبدا منظر عرض أولئك الصبية جذابا ويدل على سعة أفق غير متوقعة من الجانبين. وكان هنالك أيضا بعض طلاب كلية غردون، والذين كان من ضمنهم أحد أبناء ست مدينة. وكان للسيد عبد الرحمن قبولا في أوساط طلاب كلية غردون (والأفندية لاحقا) منذ أن توسط بينهم وبين إدارة الكلية في شأن إضراب الطلاب في عام 1931م. وسبق للسيد عبد الرحمن المساهمة في إنشاء نادٍ لخريجي طلاب كلية غردون بأمدرمان في عام 1919م.
وأخذنا السيد الهادي بن عبد الرحمن المهدي لمدرسة البنات. وفهمت من مرافقي أن السيد الهادي هو من كان يتولى في تلك الأعوام شئون الجوانب الدينية المتعلقة بزعامة أبيه. وتأملت في وجه السيد الهادي وقدرت أن للرجل في ذلك الوقت ألطف وجه (gentlest face) لرجل سوداني. وعند الحديث معه وجدته رجلا ودودا وفي غاية الرقة (كان هذا أيضا رأي السيدة ايزماي توماس في السيد الهادي. انظر الكتاب الذي حرره زوجها جراهام ايزماي عن مذكرات زوجته.
ولما كانت مدرسة الجزيرة أبا للبنات مدرسة خاصة يتولى السيد عبد الرحمن كل شئونها، فلم يكن لي ما أقوم به هنا غير اسداء النصح إن طلب مني ذلك. ولكن لدهشتي وخيبة أملي اكتشفت أن المبنى الذي خصصه السيد عبد الرحمن (البالغ الثراء) لمدرسة البنات كان مبنى بائسا رديء البناء، لا شك عندي أن بعض المتطوعين العاملين في خدمة عزبة السيد هم الذين بنوه. وقمت مع ست مدينة بتفقد الفصلين الوحيدين بالمدرسة فوجدنا في كل فصل نحو 30 طالبة يجلسن على بروش. ورأينا في الفصلين قليلا من الكتب وألواح الأردواز التي استعيرت على عجل من مدرسة الأولاد. وكانت بالمدرسة معلمة واحدة دهشت حين لقيتها في المدرسة الجديدة لأننا كنا قد فصلناها من كلية المعلمات لأسباب تتعلق بسلوكها الشخصي تجاه بنات جنسها. ووجدت من واجبي أن أتحدث مع تلك المعلمة وأذكرها بضرورة الحفاظ على الفرصة الثانية (ولعلها الأخيرة) التي أعطيت لها لتصبح مدرسة صالحة. وسررت غاية السرور عندما أكدت لي تلك المعلمة أنها قد وعت الدرس وغدت امرأة مستقيمة ومدرسة صالحة. ومن باب الحرص أوصيت ست مدينة لتضعها تحت مراقبة لصيقة. ووجدت بقرب الفصلين مبنى أبيض اللون معروشا بالقش يضم نحو 25 عجلة لغزل القطن. وكان الغرض (الظاهري) من وجود تلك العجلات هو تعليم البنات غزل القطن وصنع الخيوط. وأرتني إحدى النساء قطعة من الدمور البلدي زعمت أنه من صنع الصغيرات. وكان كل ما بمقدوري فعله هو عمل جدول للحصص والأعمال اليدوية والنشاطات في تلك المدرسة الجديدة. وقام ولد ست مدينة بترجمة ما قمت به للغة العربية.
وبعد سنوات الحرب أقامت الحكومة مدرسة حقيقية للبنات بالجزيرة. ومن عجب أن سمعت لاحقا أن النظام المايوي قد صادر بيت السيد عبد الرحمن وحوله، للمفارقة، مدرسة للبنات.
وطفت لاحقا على عزبة السيد عبد الرحمن وتولد لدي شعور بأن هنالك جوا اقطاعيا يسود المكان، والذي كان يعج بالأطفال والصبية الذين كانوا يعملون في الزراعة. ولكني أشهد بأني رأيت هؤلاء الناس يعملون في الزراعة دون أن تظهر عليهم أي علامات لتبرم أو لتعاسة ظاهرة. وكان السيد الهادي يكرر بأن عمل هؤلاء في الصغر مفيد لهم في تعلم حرفة الزراعة وإجادتها.
وقضيت عصر اليوم التالي في تفقد متحف الجزيرة أبا، والذي كان عبارة عن غرفة صغيرة تقع تحت غرفة نومي مباشرة، وتحوي بعض القطع الأثرية للمهدي. ولا يمكن إلا لخبير التأكد من موثوقية وصحة القطع المعروضة في ذلك المتحف الصغير.
ولاحظت أمرا غريبا عند زميلتي ست مدينة، وهو أن السيد عبد الرحمن كان يمسح جبينه من العرق حينما يشتد الحر، ثم يرمي بمنديله أو مسبحته أرضا ويطلب من ست مدينة رفع ما أوقعه بيده. وكانت مدينة تجد سعادة غامرة في طاعة أمر السيد. وعجبت أكثر عندما رأيت أن ست مدينة قد أمرت بالانصراف لبيتها عندما حان وقت تقديم الشاي بكيك البرقوق، ووجدت ذلك أمرا يبعث على الأسف.
وفي عصر أحد الأيام تجمع وكلاء السيد وجلسوا عند قدميه (مثل ما قد يراه المرء في اللوحات الشرقية التقليدية) وجيء برجل عجوز ليحكي لهم بعض القصص القديمة الطويلة، وينتزع من الجميع الابتسام والضحك. ورأيت ذات مرة وكلاء السيد عبد الرحمن ينظمون طابورا من الرجال في صف واحد لينالوا “البركة” من السيد، وليقدم أحد الوكلاء عرضا لمشكلة كل واحد منهم للسيد وهم صامتين.
وفي يوم الجمعة أتى للجزيرة مفتش المركز البريطاني (دونالد فريدريك هاولي) من كوستي مصطحبا معه المأمور السوداني (صديق نديم) وناظر جديد لمدرسة كوستي (هـ. ديكنسون). ولقيهم السيد عبد الرحمن بعد فراغه من صلاة الجمعة ودعاهم للغداء على مائدته. غير أنهم رفضوا الدعوة آسفين بسبب رداءة الطريق وخوفهم في أن يعلقوا ليلا في وسطه. ولاحظت أن هاولي كان يتحدث مع السيد عبد الرحمن عن بعض الأمور التجارية بلغة عربية بالغة الضعف أحسست حتى أنا بالخجل منها.
وبعد صلام العصر أقيم موكب سمي “موكب النصر” تضمن خطبا مطولة وعروضا متباينة. وأسفت لحذف جزء من ذلك العرض كان من المفروض أن تقدمه بنات المدرسة وهن يغزلن القطن، وكان قد سبق لي أن شهدت بروفة له. ورأيت أن تلك كانت ستكون فرصة طيبة لوضع البنات في مشهد الحياة في الجزيرة أبا. غير أن منظمي العرض اعتذروا عن حذف ذلك الجزء بسبب ما زعموه عن “ضيق الوقت”، مما عزز – ضمن حوادث صغيرة أخرى – انطباعي، بل قناعتي بأن السيد عبد الرحمن لم يكن جادا بالفعل في البدء بإحداث تغييرات تقدمية حقيقة في أوساط السكان، ربما مراعاة لآراء الأغلبية المحافظة بالجزيرة، وخوفا من إضعاف موقعه وسطهم. غير أن ذلك الموكب تضمن عرضا لمهرج مضحك أثار قهقهة عالية من السيد عبد الرحمن.
وفي يوم السبت (19 مايو 1945م) قدم للجزيرة وفدان من الأطباء البريطانيين والسودانيين (منهم دكتور عبد الحليم محمد)، ومن علماء المعهد العلمي بأمدرمان، مع مدرس من مدرسة الخرطوم بحري ليشهدوا افتتاح فصول إضافية لمدرسة البنين. ودعي رئيس وفد الأطباء (الدكتور برايدي) وبعض الأطباء السودانيين معنا لتناول طعام الغداء مع السيد عبد الرحمن وابنه السيد الصديق. وكانت تلك فرصة تغيير طيبة بالنسبة لي.
وهطلت الأمطار بغزارة في صباح اليوم التالي. وجاءني من يخبرني بأن السيد قد ذهب للمسجد للصلاة، ويسألني إن كنت أود البدء في تناول طعام الإفطار قبله. ولكن سرعان ما أتى السيد متألقا وفي بالغ الأناقة وهو يتأبط مصحفه. وجلس مع بعض أعوانه ليدبر تغيير خطط مغادرتي للجزيرة التي أفسدتها الأمطار، إذ كانت كل السيارات قد أرسلت لمحطة السكة حديد لجلب 101 ضيفا للجزيرة. وبقيت في غرفتي في انتظار من يدعوني لبدء رحلة العودة. وعند منتصف الظهيرة قرر السيد أنه يجب أن أبدأ رحلة العودة دون انتظار لافتتاح الفصول الجديدة بمدرسة البنين. ولم أشعر بالأسف لمغادرة الجزيرة وذلك لأن أيامي فيها – رغم استمتاعي فيها ببعض الساعات، والكرم الحاتمي الذي قابلني به السيد عبد الرحمن وأنصاره – كانت أيام عزلة شبه تامة.
وصلت لأمدرمان في اليوم التالي، وبدأ احساسي بالامتنان للسيد يتناقض بمعدل متزايد. واكتشفت بأني أصبت بداء الزحار (الدوسنطاريا)، مما زاد في سوء مزاجي. وتطلب شفائي من ذلك المرض نحو يومين كاملين من الراحة التامة على السرير. وسخر مني خادمي السوداني الذي كان قد رافقني في رحلتي للجزيرة أبا قائلا: “وماذا كنت تتوقعين من شرب مياه الآبار القذرة في أبا؟”. وسافرت بعد رحلتي تلك لأبا إلى سنكات، وعدت منها منهكة، وقال لي الأطباء أن السبب في ذلك هو ذلك الزحار الذي أصبت به في الجزيرة أبا.
وبعد شفائي من ذلك المرض تأملت مجددا في تلك الزيارة النادرة للجزيرة أبا، وخلصت إلى أنني، وبعد إزاحة كل الجوانب السياسية جانبا، كنت محظوظة جدا بفرصة زيارة تلك الجزيرة، معقل أنصار المهدي. وتيقنت من أنني لن أحظى بمثل تلك الزيارة مرة أخرى في حياتي. وصعب علي أن أؤمن بأن السيد عبد الرحمن يمكن أن يكون رجلا سياسيا خطيرا (علينا). وقر عندي أن السيد عبد الرحمن لن يشكل خطرا علينا إلا إذا استغله فرد أو جماعة نشطة ومجردة من المبادئ والضمير تعمل من أجل مصالحها الذاتية.

المصدر:

زيارتي إلى الجزيرة أبا
A Visit to Aba Island
انا بيزيلي Ana Beasley
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
هذه ترجمة لبعض ما ورد في الفصل السادس لكتاب المربية البريطانية انا بيزيلي المعنون: “Before the wind changed: People, Places and Education in the Sudan”، والذي سبق لنا ترجمة عرض له بقلم بروفيسور مارتن دالي.
وكانت انا بيزيلي قد أتت للسودان للعمل مفتشة لتعليم البنات بأمدرمان بين عامي 1939 – 1942م، ثم مراقبة لتعليم البنات في الخرطوم حتى عام 1949م حين تقاعدت عن العمل بالسودان. وكان قد سبق لها العمل محاضرة بجامعة رانقون في بورما وجامعة نوتنقهام وكلية ماريا قراي ببريطانيا.

مقالات ذات صلة

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x